تناولنا في الحلقات السابقة:
- إخلاص النية لله في زواجي
- هل المودة والرحمة هبة أم توفيق من الله؟
- القوامة
- “..هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ..”
- علاقة الزوج بأهل زوجه
ونتناول في هذه الحلقة: ماهية الزواج
يُعرف الزواج لغة بأنّه الارتباط والاقتران، حيث يحدث بين شيئين يرتبطان معاً، كما يعرف أيضا بأنه الضم. ويُعرف الزواج شرعاً بأنّه ميثاق غليظ عن تراضٍ وترابط شرعي بين رجل وامرأة على وجه الدوام، واستمتاع كلّ من الزوج والزوجة ببعضهما وغايته الإحصان والعفاف وإنشاء أسرة مستقرّة برعاية الزوجين. لذا فالزواج اقتران بين مسلم ومسلمة، وزواجهما، بمعنى صار كلاهما زوجا للآخر، فصارا زوجين بعد أن كان كل منهما فردا واحدا؛ فقبل الزواج كان هناك رجل يدعى زيد وأنثى تدعى سمية -مثلا، كل منهما له الحرية في حدود ما أباح له الشارع الحكيم في تصريف حياته، وبعد الزواج أصبح هناك زوج سمية وزوجة زيد، وأصبح لهما رؤى وحياة مشتركة يتعاونان ويتكاملان في بناء كينونة خاصة بهما؛ فهناك مقاصد عدة للزواج وفقاً للشريعة الإسلاميّة منها حفظ النوع الإنساني وتكاثره لعمارة الأرض وعبادة الله.
وأود التفريق بين الدافع للزواج وأهداف الزواج، فالدافع الرئيس والطبيعي للزواج هو استمتاع الزوجين ببعضهما الذي من خلاله تتم المقاصد الشرعية للزواج.
ولعل وصية أمامة بنت الحارث الشيباني لابنتها أم إياس عند زفافها إلى عمرو بن حجر أمير كندة التي قالت فيها: “أي بنية إن الوصية لو تركت لفضل أدب تركت لذلك منك، ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل، ولو أن امرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها كنت أغنى الناس عنه، ولكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال”. والتعبير المهذب من الأم لابنتها “النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال” يتضمن الدافع للزواج وهو الاستمتاع، ولا يتحقق ذلك إلا بحياة الزوجين معا في بيت واحد خاص بهما حتى وإن كان هناك ما يستدعي معيشتهما مع الأهل –وهذا استثناء– فيجب أن تكون لهما حياتهما الخاصة حتى يتمكنا من الاستمتاع ببعضهما.
إن الاستمتاع ليس فقط العلاقة الحميمية بل هو منظومة شاملة ومتكاملة من التواصل العاطفي من خلال نظرة امتنان وشوق ولمسة حانية وكلمة حب رقيقة، والتواصل الوجداني من تقدير واحترام وعفو وتجاوز، ومن خلال إعداد الزوجة لوجبة طعام يشتهيها زوجها بكل حب وإتقان ولقمة هنية يطعمها الزوج زوجته، ومن خلال كلمات إطراء وإشادة الزواج بجمال تسريحة زوجته، وبقيمة كل زوج في حياة زوجه ولهفة الزوج على زوجه إذا ما ألم به مكروه، وغير ذلك كثير من وسائل الاستمتاع المعنوي والمادي بين الزوجين.
لماذا هذه المقدمة؟
حتى أوضح معنى الزواج، وأن العقد يعطي فقط الإطار الشرعي للعلاقة، لكن لا يلبى دوافع الزواج وهو الاستمتاع، ولا تتحقق مقاصده إلا من خلال الحياة المشتركة؛ لذا فآثم شرعا من يترك زوجه دون ضرورة شرعية كالجهاد أو العمل لسداد ديونه أو ديون والديه مثلا. أما بُعد الزوج عن زوجه بدون ضرورة شرعية كتحسين مستوى معيشتهم فيجب أن يتوافق الزوجان على ذلك. وأؤكد أنه لا يحق لأحد الزوجين البعد عن زوجه من غير ضرورة شرعية دون موافقة زوجه. ومن واقع الاستشارات التي تعرض علينا، أحذر من المصائب التي تترتب على بُعد الزوجين عن بعضهما، بفرض توافقهما على ذلك بحجة تحسين مستوى المعيشة!
وصية الفاروق عمر
رأى بعض الفقهاء أن “أقصى مدة يغيبها الزوج عن زوجته هي أربعة أشهر فقط”، حسب ما أوصى به الفاروق عمر رضي الله عنه لقادة الجيوش ألا يغيب الجند عن أهلهم أكثر من أربعة أشهر.
فقد جاء في المأثور أن عمر رضي الله عنه سمع – وهو يتفقد أحوال رعيته ليلا- زوجة تنشد شعرا تشكو فيه بُعْدَ زوجها عنها لغيابه مع المجاهدين، وتضمن شعرها تمسكها بدينها وبوفائها لزوجها، ولولا ذلك لهان عليها بعده، وذلك بآخر يؤنسها في غيبة الزوج.
ومن المؤكد أن الجهاد أقدس ضرورة لغياب الزوج عن زوجه. ولا مجال لمقارنة البيئة النفسية للزوج الذي يجاهد في سبيل الله وزوجه التي تعيش في البادية وتقدر أسباب بعد زوجها عنها، وفي المقابل الزوج الذي سافر لتحسين مستوى معيشة أهله، وترك أهله يعيشون بعيدا عنه في مدينتهم، وكلنا نعلم للأسف مدى حالة التراجع القيمي بالإضافة إلى آثار الإعلام ودوره في الإثارة ناهيك عن التطبيقات التي تثير الغرائز وتسهل التواصل بين الجنسين. فكلا الزوجين يعيش في عالم مليء بالفتن؛ لذا فلا مجال للمقارنة بين البيئة التي طبق فيها قرار الفاروق عمر بالبيئة التي نعيشها الآن.
وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: “ذهب الفقهاء إلى أن للزوج أن يطالب زوجته بالوطء متى شاء إلا عند اعتراض أسباب شرعية مانعة منه كالحيض، والنفاس، والظهار والإحرام ونحو ذلك، فإن طالبها به وانتفت الموانع الشرعية، وجبت عليها الاستجابة”. وهناك أحاديث صحيحة في تأثيم من تمتنع عن زوجها دون عذر شرعي. يقول المولى عز وجل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ..} البقرة 228.
إن الاستمتاع بالحياة الزوجية من تبادل عاطفي وجنسي ورعاية واهتمام وتقدير وامتنان وأمان واطمئنان هو حق لكلا الزوجين؛ فكيف يتحقق بالتباعد بين الزوجين؟ ومن المفارقات التي تعرض علينا في الاستشارات أن الزوجة تعبر لزوجها صراحة بعدم موافقتها على سفره ويعلل ذلك هو بتحسين معيشتها والأولاد، ويتركها تكابد نار الوحدة ويعرضها للفتن، ناهيك عن تحملها مسؤولية الأسرة؛ فأنا أرى والله العليم أنه آثم لأنه حرم نفسه من زوجته وحرمها منه وعرّضها وإياه للفتن. وقد يتبجح أحدهم فيصدم زوجته بزواجه، ويبرر ذلك: أليس هذا حقي الشرعي؟ وهنا نسأله: وأين حقها هي؟ ألم تسمع وصية النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: “ألا إنَّ لكم على نسائكم حقًّا، ولنسائكم عليكم حقًّا”؟ وقوله صلى الله عليه وسلم “ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنما هن عوانٌ عندكم..” (سنن الترمزي 1163)، فأعطها حقها كاملا ثم قل هذا حقي.
يقول المولى عز وجل: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (النساء: )19، وكيف يتحقق المعروف والزوجان لا يعيشان معا؟ فالعشرة تعني المعايشة وتتضمن الملازمة والمصاحبة، لذا فالزواج معناه أن يعيش الزوجان معا، ولا يفترق زوج عن زوجه بالشهور ليلتقيا أسابيع ثم يفترقا وتستمر حياتهما ويسمى هذه زواج!
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم “يا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعليه بالصَّوْمِ؛ فإنَّه له وِجَاءٌ” صحيح مسلم 5056، من رزقه الله بما يمكنه من الزواج فعليه الزواج، ومن لم يستطع فعليه الاستعانة بالله والصيام والصبر حتى يرزقه الله؛ لذا لا يقبل أن أتزوج وأترك زوجتي بحثا عن الرزق والله تعالى هو القائل: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (الذاريات: 22، 23).