هكذا قال لنا شاعر الإسلام الكبير محمد إقبال (1877 – 1938) شاعر الإيمان والحب والطموح في قصيدته الرهيفة العميقة “حديث الروح”، التي ترجمها إلى العربية الشيخ الضرير البليغ الصاوي شعلان (ت 1982م):
إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يُحي دينا
في الحياة التي بلا إيمان، كل إنسان يصارع ويقاتل كل إنسان آخر، وابنا آدم في باكر أيام بني آدم على الأرض، حدث بينهما ما يؤكد ذلك، وأثبته القرآن الكريم في ذلك الحوار البسيط الشامل الذي دار بينهما وانتهى إلى واقعة الغراب الشهيرة، وكالعادة وكما يحدث دائماً كانت معه هذه الكلمة الشهيرة في مثل هذه الأوقات: “يا ويلتا! يا حسرتا!”، التي ستسير طويلاً مصاحبة لحياة من يختار أن يكون كما كان القاتل الأول.
كل فرد يريد أن يحصل على المزيد من القوة، وأن يفرض سيطرته على كل فرد آخر، وكل فرد يريد تملك كل شيء، حتى وإن كان على حساب أخيه الإنسان الذي هو له بمثابة عدو، إنه ذئب يتربص بأخيه الإنسان الدوائر، ومتى سنحت له الفرصة أجهز عليه، هكذا تفلسف على البشر الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588 – 1679).
هوبز أحد كبار عيون العقل الغربي، وأحد أهم الآباء المؤسسين لفكرة السلطة والدولة في القرن السابع عشر، تخصص في الرياضيات والفلسفة، وله كتاب ما زال الناس يقرؤونه حتى اليوم بعنوان “الليفياثان”، والكلمة تشير إلى حيوان خرافي له جسم ثعبان ورأس تنين يعيش في البحر، وله جملة شهيرة وردت في هذا الكتاب، إذ يقول: “الإنسان ذئب الإنسان في حرب الجميع ضد الكل”.
لا شك أن الرجل كان متأثراً بظروفه التي عاشها (الحرب الأهلية الإنجليزية التي استمرت 10 أعوام تقريباً من عام 1642 – 1651)، خلاصة ما قاله هوبز: إن العلاقة بين البشر محكومة بالصراع والعداوة اللانهائية، صراع يفترس فيه الإنسان أخاه الإنسان، كما أن الإنسان لا يختلف في هذا الصراع عن الحيوان في أنانيته وشراسته.
والصورة التي ترسم له على غير ذلك هي أقرب ما تكون إلى الأماني والأوهام أكثر منها إلى حقائق الواقع الذي يعيشه البشر ويعرفونه جيداً في التاريخ وفي الحاضر!
جملة “الإنسان ذئب للإنسان” هذه وصفها الفيلسوف الفرنسي المسلم روجيه جارودي (1913 – 2012) بأنها “أصل الشرور في العالم”، وهو صائب تماماً، فقد عرف في الإسلام: ما الإنسان؟ وما الحياة؟ وما الموت؟ وما الخير والشر؟ وما الصراط المستقيم؟
هنالك الكثير من الأشياء التي يتنافس عليها البشر: الثروة، والمناصب الرفيعة، والسعي لاكتساب الإعجاب، والعلو في الأرض.. وغير ذلك من زخارف الحياة، وسيؤدي كل ذلك إلى استعداد للحرب في البداية، ثم يتحول إلى عداء وحرب وقتال.
التطلع إلى المجد أيضاً مصدر رئيس من مصادر الصراع بين البشر، فكل إنسان ينتظر من الآخر أن يعطيه قيمة معينة أو يقدره قدراً، هذا التقدير أصلاً هو الدرجة التي يعطيها الإنسان لنفسه، وعلى حسب ما يقدر نفسه يريد من الآخرين أن يقدروه! ولما كانت هناك دلائل تشير إلى الحط من قدره، أو هكذا صورت له نفسه أو وسوس له إبليس، فمن الطبيعي أن يحاول انتزاع قيمة أعظم ولو بالقوة، فالاحتقار يشير إلى أن الآخرين يعدون قوته أدنى من قوتهم، وفي الحقيقة ليس هنالك من يعترف بهذه الدونية طواعية، ولا بد أن يؤكد لنفسه وقدرته ليُقنع الآخرين بهذه القدرة، وليس هناك سبيل أمامه سوى التغلب على محتقريه بالقوة، أو أن يعاني المزيد من الانتهاك لوجوده وكرامته، سيكون علينا أن نتوقف هنا كثيراً أمام الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ) (الحجرات: 11)، ويروي لنا الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: “بحسب امرئ من الشرِ أن يحقر أخاه المسلم”.
اختبار الاختيار
الإسلام أقر وأكد هذه الطبائع وأكثر في الإنسان، وغطَّاها بتفصيل واسع وعميق وكلي، حتى يتبين الرشد من الغي، ليس هذا فقط، بل وأخبرنا أن الإنسان لديه كل القدرة على اختيار مسلكه في الحياة بإرادة كاملة وحرية تامة، ليس هذا فقط، بل ولديه القدرة على اعتياد سلوك المسلك الصحيح إذا اختار وأراد، بشرط واحد فقط، ما هو؟ أن يبادر الإنسان إلى ذلك، الخطوة الأولى التي تبدأ فكرة في الرأس حيث إحدى نعم الله الكبرى على البشر “العقل”، ثم لا تلبث أن تكون فعلاً يتحرك في الواقع، وهكذا.
الحياة في المفهوم الإسلامي/ الإنساني: لعب ولهو وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال، ورغبة دائمة في الاستعلاء مصحوبة بأنانية، ومنع للخير وشح وهوى ومزاج، ورأي خاص يريد فرضه، ودنيا تعلو ولا يعلى عليها، رغم أنها إلى فناء، نكاد نرى له بياناً تجريبياً كل يوم؛ كمثل غيث أعجب الزراع نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً، ليس في النبات فقط بل فينا أيضاً؛ ضعف وقوة ثم ضعف وشيبة ثم الموت والنهاية، وبعد الموت مصير من مصيرين؛ عذاب شديد، أو مغفرة من الله ورضوان، وعلى من علم أن يعلم أكثر وأكثر أن الدنيا متاع الغرور.
لا شيء في يديك إلا ما كسبت يداك وتحول إلى كتاب ينطق بالحق، إنه اختبار الاختيار الذي هو ضرورة مصاحبة لوجود الإنسان على الأرض، ومن عنده مسارات ومسالك أخرى لوجوده ونهايته ومصيره فليتفضل مشكوراً، كل الاستحقاقات السابقة ستطلب من الإنسان أن ينظر للآخرين نظرة تخاصمية عدائية مليئة بالتحفز والشكوك، وإن أخفى ذلك وتظاهر بغيره، خُسر في خُسر، وخسران في خسران، إلا.. إلا من؟ (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: 3).