تشهد فرنسا، الثلاثاء 31 يناير/كانون الثاني 2023، موجة ثانية من الإضرابات؛ حيث خرجت احتجاجات “الثلاثاء الأسود”، في مجموعة من المدن الفرنسية رفضاً لمشروع إصلاح التقاعد الذي تريد الحكومة فرضه لرفع سن التقاعد، وهو ما تعارضه أغلب النقابات العمالية في البلاد.
حيث قالت وكالة رويترز إن إضراباً ثانياً على مستوى فرنسا تسبب في تعطيل إنتاج الكهرباء وحركة النقل العام والمدارس، في رد فعل عنيف على خطط الحكومة الرامية لرفع سن التقاعد.
بينما ترغب النقابات، التي حددت مواعيد لمسيرات احتجاجية في أنحاء فرنسا على مدار اليوم، في مواصلة الضغط على الحكومة وتأمل في أن يتكرر الإقبال الكبير على المشاركة الذي شهده الاحتجاج الأول في 19 يناير/كانون الثاني.
{tweet}url=1620374345724878849&maxwidth=400&align=center&media=false{/tweet}
في ذلك اليوم، شارك أكثر من مليون في مسيرة لمعارضة رفع سن التقاعد إلى 64 بدلاً من 62 عاماً وتسريع خطة رفع السن المؤهل للحصول على معاش تقاعدي كامل.
إذ قال لوك فار، الأمين العام للاتحاد الوطني للنقابات المستقلة لموظفي الخدمة المدنية: “هذا الإصلاح غير عادل وقاسٍ… رفع (سن التقاعد) إلى 64 يمثل تراجعاً اجتماعياً”.
فيما تم تشغيل واحد فقط من كل ثلاثة من قطارات تي.جي.في عالية السرعة اليوم الثلاثاء وعدد أقل من القطارات المحلية والإقليمية، مع تعطيل مترو باريس بشدة.
كما قالت نقابة معلمي المدارس الابتدائية إن نصف المعلمين سيضربون عن العمل، وبالمثل يضرب موظفو المصافي النفطية والعاملون في قطاعات أخرى من بينها محطات البث الحكومية التي بثت الموسيقى بدلاً من البرامج الإخبارية.
بينما انخفضت إمدادات الطاقة الفرنسية 4.4 بالمئة، أو 2.9 غيغاوات، إذ انضم العاملون في المفاعلات النووية ومحطات الطاقة الحرارية إلى الإضراب، وفقاً لبيانات من مجموعة إي.دي.إف.
إذ قالت شركة “توتال إنرجيز” إنه لا يتم تسليم منتجات بترولية من مواقعها في فرنسا بسبب الإضراب، مضيفة أن محطات الوقود تم إمدادها بالكامل ويجري تلبية احتياجات العملاء.
{tweet}url=1620380160003538946&maxwidth=400&align=center&media=false{/tweet}
فيما تظهر استطلاعات الرأي أن معظم الفرنسيين يعارضون الإصلاح، لكن الرئيس إيمانويل ماكرون وحكومته يعتزمون التمسك بموقفهم. وقال ماكرون الإثنين 30 يناير/كانون الثاني، إن الإصلاح “ضروري” لضمان استمرار عمل نظام المعاشات التقاعدية.
تقول تقديرات وزارة العمل إن رفع سن التقاعد بمقدار عامين وتمديد فترة الدفع من شأنه أن يدر 17.7 مليار يورو (19.18 مليار دولار) من المساهمات التقاعدية السنوية؛ مما يسمح للنظام بتحقيق التوازن بحلول عام 2027.
فيما تقول النقابات إن هناك سبلاً أخرى لتحقيق ذلك، مثل فرض ضرائب على فاحشي الثراء، أو مطالبة أصحاب العمل أو المتقاعدين الميسورين بالمساهمة بشكل أكبر.
بريطانيا.. الإضراب الأضخم منذ 10 سنوات
الوضع في بريطانيا، بطبيعة الحال ليس أفضل من نظيره الفرنسي، إذ تستعد المملكة المتّحدة غداً لتسجيل أضخم إضراب عمالي منذ أكثر من 10 سنوات، تليه سلسلة من الإضرابات الإقليمية على مدار 6 أيام في شباط/ فبراير وآذار/ مارس، احتجاجاً على عدم زيادة الأجور بما يتناسب مع التضخم المرتفع والأزمة المعيشية التي تعصف بالملايين.
وسيمتنع أكثر من نصف مليون بريطاني عن الذهاب إلى أعمالهم، بعد أن أعلنت سبع نقابات عمالية مجتمعة الإضراب عن العمل غداً، وسط توقعات بأن يتكبّد الاقتصاد خسائر قاسية من جراء هذا الإضراب الذي سيتسبب بفوضى في العديد من الخدمات والمنشآت.
ومن المقرر أن يستأنف الممرضون هذا الأسبوع في إنكلترا وويلز وأيرلندا الشمالية الإضراب يومي الأربعاء والخميس، بعدما نفّذوا أول إضراب لهم على الإطلاق، في ديسمبر/كانون الأول 2022، وسط أسوأ أزمة عمالة تعيشها هيئة الخدمة الصحة الوطنية في التاريخ.
أزمات جعلت بريطانيا مملكة عليلة، تنخرها الإضرابات المتكررة من قبل الكوادر الصحية والتمريضية الشحيحة أصلاً، وسط أرقام للمنظّمات الصحية تتحدث عن موت ما بين 300 إلى 500 مريض كل أسبوع في أقسام الطوارئ نتيجة النقص الحاصل في الرعاية الصحية.
رئيس اتحاد النقابات العمالية قال، إنّ أكثر من نصف مليون عامل سيضربون عن العمل هذا الأسبوع، لإرسال رسالة واضحة للحكومة مفادها أنّه “لا يمكن تجاهل مطلب الأجور العادلة”.
كذلك، ستنظّم احتجاجات في جميع أنحاء البلاد ضدّ مشروع قانون قدّمته حكومة المحافظين إلى النواب، من شأنه أن يطالب النقابات المهنية بتوفير حد أدنى من الخدمة أثناء الإضرابات. وهو ما تعدّه النقابات مقدمة لإقالة العمال الذين يصوتون بشكل قانوني للإضراب.
وفيما يتّهم رئيس الوزراء ريشي سوناك حزب العمال بمساعدة النقابات على “دفع بريطانيا إلى التوقف”، من خلال معارضة القانون الجديد، يعدّ حزب العمال القانون انتهاكاً للحريات المدنية وحقوق الإنسان، كونه سيحدّ من التظاهر، وسيحوّل الإضرابات إلى عمل غير قانوني في بريطانيا.
ووفق صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، يهدف التعديل إلى السماح للشرطة بالتدخّل قبل أن “تصبح الاحتجاجات مدمرة للغاية”، وهو ما يحمل الكثير من التفسيرات.
وأمام مجمل هذه التحديات التي تواجهها بريطانيا، فإنّ سوناك، يعيش لحظات كارثية ، وفق صحيفة “ديلي ميل البريطانية”، إذ إنّ ما أخبر به زملاؤه في الحزب حول بناء “دولة يفخر بها أحفادهم”، يصطدم بواقع مروع.
أوكرانيا .. القشّة التي قصمت ظهر الاقتصادَين الفرنسي والبريطاني
لا تزال تداعيات العقوبات الغربية ضدّ روسيا على خلفية عمليتها العسكرية في أوكرانيا، تعصف بالدول الأوروبية، وتؤتي ثماراً عكسية تضرّ بالاقتصاد الأوروبي، وتضرب مؤسساته التي أفلست وأغلقت بالمئات.
ولا شك في أنّ ما تعيشه بريطانيا وفرنسا، وإن كان مرتبطاً بشكل أساسي بعقود من السياسات الداخلية المتأزمة، وتداعيات جائحة كورونا سلبية، إلا أنّه دون أدنى شك مرتبط أيضاً بالسياسة الخارجية لهاتين الحكومتين، خاصةً في ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، وانصياعهما للسياسة الأميركية في آلية التعاطي، وفرضهما لعقوبات على روسيا.
وهو ما لم يخفه مسؤولو البلدين بطبيعة الحال. فالرئيس الفرنسي قالها صراحة: “لم يعد بإمكاننا التعامل بالقواعد نفسها كما كان الحال عليه قبل سنة، لذلك يجب تكييف الوسائل مع التهديدات”.
كما أنّ رئيس الوزرء البريطاني، ريشي سوناك، حذّر سابقاً من أنّ المشكلات الاقتصادية لبلاده “لن تختفي” في عام 2023، بسبب عواقب الحرب في أوكرانيا، قائلاً: “لقد كان لهذا تأثير اقتصادي عميق على العالم، والمملكة المتحدة ليست محصّنة ضدّه”.
وفي إضاءةٍ سريعة، حول ما خلّفته الحرب من تداعيات سلبية على كلا الاقتصادين، بلغ معدل ارتفاع التضخم في فرنسا 5.2% على مدى العام 2022 بأكمله (كان معدل التضخم 1.6 % في 2021). ومن جهته، توقع البنك المركزي الفرنسي حصول ركود في البلاد في العامين 2023 و2024.
كما أعلنت مئات المؤسسات والشركات في البلاد إفلاسها نتيجة حرب الطاقة التي تشنها فرنسا وحلفاؤها، وفق ما قالت رئيسة كتلة حزب “التجمع الوطني” في البرلمان الفرنسي مارين لوبان. وهو ما دفع ماكرون إلى إعلان” اقتصاد الحرب”.
بدورها، شهدت بريطانيا ارتفاعاً في أسعار الوقود والأغذية، ما ألحق أضراراً بملايين الأسر في بريطانيا. وكانت دائرة الرقابة المالية البريطانية قد أعلنت أنّ نحو 32 مليون بريطاني يواجهون صعوبات في دفع فواتيرهم في ضوء التضخم المرتفع والنمو القياسي لتكلفة المعيشة.
وقام البنك البريطاني برفع سعر الفائدة الأساسية بمقدار 50 نقطة أساسية من 3% إلى 3.5% (كان يبلغ 0.1% فقط في كانون الأول عام 2021)، كما أفاد بأنّ اقتصاد بريطانيا دخل في حالة ركود هي الأسوأ منذ سبعينيات القرن الماضي.
وبلغ معدل التضخم السنوي في بريطانيا، وفق نتائج تشرين الأول/نوفمبر الماضي، 10.7% (عام 2021 لم يتجاوز 3%)، لتتحوّل بريطانيا التي كانت تعرف في القرن التاسع عشر،بـ “إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس”، إلى مملكة يعاني شعبها من أزمات اقتصادية صعبة.
وبحسب خبراء اقتصاديين، فإنّ التخلي عن إمدادات الطاقة الروسية بشكل كامل يعني انكماشاً في اقتصادات أوروبا بنسبة 1.2%، ويزيد من خطر دخول كثير من الدول الأوروبية في ركود اقتصادي العام المقبل وبينها بريطانيا.
وأعادت الأزمة الاقتصادية الحالية التي يعيشها العالم بشكل عام وأوروبا على وجه الخصوص إلى الأذهان، أزمة النفط التي وقعت في سبعينيات القرن الماضي، حيث أكّد وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي برونو لومير، أنّ “حدّة أزمة الطاقة الراهنة الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط والغاز تشبه الصدمة النفطية التي وقعت في عام 1973″، خاصةً وأن سعر برميل النفط وصل إلى 120 دولاراً عقب حظر الولايات المتحدة النفط والغاز الروسيين.
بعد عقودٍ من الأمن الغذائي والرخاء إذاً، يستنزف الأوروبيون مواردهم وطاقاتهم عسكرياً، ويتّخذون إجراءات اقتصادية استثنائية على صعيد الطاقة، في حرب لا تصبّ إلا في مصلحة واشنطن. فالولايات المتحدة “تحاول ترسيخ هيمنتها الاقتصادية عبر إضعاف الدول الأوروبية، والاستفادة من أزمة أوكرانيا”، وفق ما يؤكّد المسؤولون الأوروبيون، ووسائل الإعلام الغربية.