تزخر السيرة النبوية الشريفة بقيم ومبادئ تجعل منها نبراساً تربوياً للنشء المسلم في مراحله العمرية المختلفة، إذ يقدم الهدي النبوي مثالاً مضيئاً للقدوة الصالحة التي يجدر اتباعها من قبل أطفال وشباب المسلمين، وفي عصر انتشرت فيه أفكار «المؤثرين» على وسائل التواصل الاجتماعي و«السوبر هيروز» على شاشات السينما والتلفزيون، حري بالسيرة النبوية أن تشغل حيزاً مهماً لدى الآباء والأمهات إذا ما أرادوا حماية أبنائهم من الاتباع والتبعية والتقليد الأعمى لأشخاص غير جديرين بالتقليد أو التبعية.
وتكمن دروس الهجرة الأخلاقية فيما قدمه أبطال تلك القصة من أمثلة ونماذج متنوعة لعدد من القيم والمبادئ التي يجب تسليط الضوء عليها، ومن أهم تلك المبادئ نذكر:
1- المُهاجرون.. والتضحية:
يقول الله تعالى في مُحكم التنزيل عن المهاجرين: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (الحشر: 8)، ففي تلك الآية يُذكرنا الله تعالى بما قدمه المهاجرون من تضحيات كبيرة لا يُقدم عليها إلا ذو إيمان صادق وعزيمة قوية، فقد تركوا بيوتهم وأموالهم وأهلهم امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى إلى نبيه، إلى وجهة لم يكن لهم بها أهل أو بيت يلجؤون إليه، فقد تركوا كل شيء إلى المجهول تضحية وفداءً في سبيل الدعوة التي آمنوا بها ولم يفكروا في أي من متاع الدنيا، ولم يخططوا لحياتهم بعد الهجرة وتركوا الأمر لتدبير الله تعالى.
2- النبي ﷺ.. والقيادة:
أظهرت الهجرة بجلاء شخصية النبي صلى الله عليه وسلم كقائد لجماعة المسلمين، يوجههم ويُدبر شؤونهم بوحي إلهي مُحكم، وحين يأتي الأمر الإلهي بالهجرة إلى المدينة يوجه النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين إلى الهجرة، فلا يهاجر تاركاً إياهم خلفه، لا بل هو قائد حقيقي لم يترك ميدان المواجهة ضد الكفار إلا بعد أن اطمأن بأن سائر المسلمين قد هاجروا وأصبحوا في مأمن بالمدينة، ليقدم بذلك صورة جد مختلفة عن القيادة التي تضحي من أجل الأتباع، وليست القيادة التي تُضحي بالأتباع أولاً لتعيش في رخاء واطمئنان.
ثم ترسم الرحلة النبوية إلى المدينة ملامح شخصية النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم دروساً قوية عن حُسن التدبير والتخطيط، ثم التوكل على الله وحُسن الظن به، إذ أعد النبي صلى الله عليه وسلم جيداً لخطة ترك مكة والتخفي من الكفار طوال الطريق إلى المدينة، فلم يترك شيئاً للصدفة أو الظروف، لكنه بعد حسن التدبير والأخذ بالأسباب يتيقن بتوفيق الله تعالى وإعجازه؛ وهو ما يعطي درساً إسلامياً أصيلاً في التوازن بين التوكل على الله سبحانه والأخذ بأسباب الدنيا في الوقت عينه.
3- الصِّدِّيق أبو بكر.. والصداقة:
كانت الهجرة حدثاً إسلامياً جللاً أظهر معدن الصداقة في أسمى معانيها ممثلة في الصديق أبي بكر، الذي أخذ جميع ما يملك من المال وترك بيته وأهله مُهاجراً بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم، غير عابئ بالأخطار التي تحدق بتلك الرحلة، إذ يتربص الكفار بالنبي عازمين على قتله لاجتثاث الدعوة الإسلامية قبل أن تتفلت الأمور بين أيديهم، لكن الصديق رضي الله عنه لم يتلفت إلا لحبه للنبي صلى الله عليه وسلم وصحبته إياه في تلك الرحلة النبوية المباركة.
4- ذات النطاقين.. والشجاعة:
كانت أسماء بنت أبي بكر رمزاً نسائياً إسلامياً ينبض بالقوة والشجاعة والنشاط في خدمة الدعوة، لتقدم قدوة عن التضحية والفداء والإقدام، بل إنها حاذت لقب «ذات النطاقين» لدورها الشجاع في الهجرة لاستخدام نطاقها لتوصيل الطعام والسقاية للنبي صلى الله عليه وسلم وأبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه، غير عابئة بأخطار تلك المهمة طالما ساعد ذلك على خدمة الدعوة، حتى لو اضطرها ذلك للوقوف في وجه جحافل الكفار والاحتيال عليهم والصمود أمامهم لتحقيق غايتها.
5- عليّ بن أبي طالب.. والفداء:
يُعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أهم أبطال قصة الهجرة الذين يجدر تسليط الضوء عليهم في رواية قصة الهجرة للنشء المُسلم، إذ افتدى عليّ بن أبي طالب النبي صلى الله عليه وسلم بأن نام في فراشه وهو لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، فلم يخف من بطش الكفار بعد أن يعلموا بخداعه لهم، ولم يتردد في أن يتعرض للأذى من جحافل قريش حماية للدعوة الإسلامية.
ورغم صغر سنه، أوكل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عليّ مهمة رد الأمانات إلى أهلها في مكة، إذ اعتادت قريش أن تودع الأمانات لدى النبي صلى الله عليه وسلم لما عُرف عنه من أمانته وحفظه للعهود، فلم يترك الرسول صلى الله عليه وسلم قريشاً إلا وقد عزم على رد الأمانات، رغم ما فعلته قريش من أذى بالمسلمين وعزمها قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عليّ بن أبي طالب بعد 3 أيام ليأمره باللحاق به إلى المدينة.
6- أهل المدينة.. والدعم والإخاء:
وفي المحطة الأخيرة من الهجرة، حيث وصل النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرون، كان أهل المدينة مثالاً إسلامياً خالداً في الحب والإخاء وتقديم الدعم للدعوة الإسلامية التي آمنوا بها وعزموا على إظهارها، فلم يدخروا جهداً ولا مالاً لمؤازرة إخوانهم من المهاجرين، ففتحوا قلوبهم وبيوتهم لاستقبال إخوانهم، وعن موقفهم هذا يخبرنا الله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).