لماذا تنكرون علينا القول بعدم ملاءمة تطبيق الحدود لهذا العصر والقاعدة الأصولية التي لا يختلف حولها علماء الإسلام تقول: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان»؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
كما عودنا المستشرقون وأزلامهم من علمانيِّ الشرق، التشبث بالشيء إذا كانوا يرونه مؤيداً لوجهة نظرهم، وقد وصف القرآن الكريم هؤلاء وأمثالهم بقوله تعالى: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ {48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ {49} أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (النور).
وشبهة اليوم لا تخرج عن هذه العادة المرذولة، فبعد أن كانت «الأصولية» سُبة عندهم يتهمون بها كل من خالفهم، يأتون اليوم ليستشهدوا بقاعدة: «لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان»؛ لأنهم يرونها مؤيدة لدعوتهم إلى تعطيل أحكام الإسلام.
ونؤكد بداية أن هذه القاعدة لا علاقة لها بما يريده هؤلاء من التلاعب بالنصوص الشرعية -إذ لا اجتهاد مع النص- إنما تتعلق القاعدة بالمسائل الفرعية التي لم يرد فيها نص من قرآن ولا سُنَّة ولا إجماع، فهذه هي التي لا يُنكر تغير الحكم فيها حسب الأحوال والمستجدات.
إن تغير الأوضاع والأحوال الزمنية له تأثير كبير في كثير من الأحكام الشرعية الاجتهادية؛ لأن ما كان من الأحكام الشرعية مبنياً على عُرف الناس وعاداتهم تتغير كيفية العمل بمقتضى الحكم باختلاف العادة عن الزمن السابق.
وأما أصل الحكم الثابت بالنص فلا يتغير، فمثلاً أثبت الشرع خيار الرؤية لمن اشترى شيئاً ولم يره، وهذا ثابت بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «من اشترى شيئاً لم يره فله الخيار إذا رآه»(1).
وقد رأى الفقهاء المتقدمون اعتياد الناس في عصرهم بناء الدور على نسق واحد لا تفاوت بين بيوتها، فقالوا: إن رؤية بيت واحد من الدار يغني عن رؤية الجميع في إسقاط الخيار؛ ولكن لما اختلفت طُرُز الإنشاءات وصارت الدار يختلف بعض بيوتها عن بعض بحسب عادتهم أفتى المتأخرون بأنه لا بد من رؤية جميعها، فهذا ليس اختلاف حجة وبرهان، بل اختلاف عصر وزمان(2).
وفي الوقت الذي قرر فيه العلماء أنه يجوز تغير الحكم في المسائل الفرعية حسب الأحوال والمستجدات، أكدوا كذلك أن الأصل في الشريعة هو ثبات الأحكام، وأن لفظ الأحكام في القاعدة ليس عامًا، وقال د. محمد الزحيلي: تعتبر القاعدة خاصة واستثناء، مع التذكير بما يلي:
1- إن الأحكام الأساسية الثابتة في القرآن والسُّنَّة التي جاءت الشريعة لتأسيسها بنصوصها الأصلية: الآمرة والناهية، كحرمة الظلم، وحرمة الزنى والربا، وشرب الخمر والسرقة، وكوجوب التراضي في العقد، ووجوب قمع الجرائم وحماية الحقوق، فهذه لا تتبدل بتبدل الزمان، بل هي أصول جاءت بها الشريعة لإصلاح الزمان والأجيال، وتتغير وسائلها فقط.
2- إن أركان الإسلام وما عُلم من الدين بالضرورة لا يتغير ولا يتبدل، ويبقى ثابتاً كما ورد، وكما كان في العصر الأول لأنها لا تقبل التبديل والتغيير.
3- إن جميع الأحكام التعبدية التي لا مجال للرأي فيها، ولا للاجتهاد، لا تقبل التغيير ولا التبديل بتبدل الأزمان، والأماكن، والبلدان، والأشخاص.
4- إن أمور العقيدة أيضًا ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ولا تقبل الاجتهاد، وهي ثابتة منذ نزولها ومن عهد الأنبياء والرسل السابقين، حتى تقوم الساعة، ولا تتغير بتغير الأزمان(3).
وقال الشيخ بكر أبو زيد عن دعوى تغير الفتوى بتغير الزمان: «هذه قاعدة صورية لا حقيقية؛ إذ إن جميع من يذكرها من الفقهاء يقيدونها بخصوص تغير الأعراف، والعصرانيون دخلوا من هذا التقعيد الصوري إلى أوسع الأبواب؛ فأخضعوا النُّصوص ذات الدلالة القطعية؛ كآيات الحدود في السرقة والزنى ونحوهما بإيقاف إقامة الحدود لتغير الزمان! وهكذا مما نهايته انسلاخ من الشرع تحت سرادق موهوم»(4).
أما تشبث هؤلاء باجتهادات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والقول بأنه لم يعط المؤلفة قلوبهم من مال الزكاة، ويعتقدون أنه عطّل هذا المصرف لمصلحة رآها بعد تغير الظروف، وليس الأمر كما زعموا، ولكن الإسلام في عهد عمر عز بأهله ولم يعد بحاجة إلى من يتألفهم، وعمر رضي الله عنه لم يعطل نصًا، فالنص باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ ولكن لعدم وجود هذا الصنف من مستحقي الزكاة صرف أمير المؤمنين عمر الزكاة في المصارف الأخرى، حيث يجوز صرف الزكاة في مصرف واحد أو مصرفين أو أكثر.
وهذا ما تم كذلك في حد السرقة عام الرمادة، فحد السرقة لا ينفذ إلا إذا توفرت شروط تنفيذه وانتفت موانعه، ومن شروط القطع في السرقة ألا يسرق السارق ما يسد به رمقه، وقد رُوي أن عمر رضي الله عنه لم يقطع غلمان حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لأنهم كانوا في حالة خصاصة، وهذا لا يعني أنه عطل الحد، ولكن لم تتوفر الشروط، ومن المعلوم أن الحدود تُدرأ بالشبهات.
وكيف يُظَن بعمر رضي الله عنه أن يفعل ذلك؟! إن هذا لا يليق إلا بمتخلف عن متابعة منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل يعقل أن يُعطل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حداً من حدود الله(5)؟!
وقد استدل هؤلاء بكلام لابن القيم يرحمه الله، حيث قال تحت عنوان «تغيّر الفتوى، واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد»: «هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهلِ به غَلَطٌ عظيم على الشريعة أوْجَبَ من الحرج والمشقة وتكليفِ ما لا سبيل إليه ما يُعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رُتَب المصالح لا تأتي به.
فإن الشريعة مَبْنَاها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلها، ورحمةٌ كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عَدْل اللَّه بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى اللَّه عليه وسلم أتَمّ دلالةٍ وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقُه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خيرٍ في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسومٌ قد بقيت لخَرِبَت الدنيا وطوي العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك اللَّه السماوات والأرض أن تزولا»(6).
وكلام ابن القيم يرحمه الله لا علاقة له بما يهدف إليه هؤلاء من تطوير الدين وتطويعه حتى يُجاري العصر ويوافق ما توصلت إليه الحضارة الغربية، وكل من يتدبر الأمثلة التي ضربها ابْن القَيِّم في كتابه «إعلام الموقعين عن رب العالمين» يَتَبَيَّنُ له أَنَّ هَؤُلَاء فِي وَادٍ وابْن القَيِّم يَرْحَمُه اللَّهُ فِي وَادٍ آخَرَ.
________________________________
(1) أخرجه الدارقطني (3/ 4)، والبيهقي (10729)، وابن الجوزي في (التحقيق) (1387).
(2) «الوجيز في إيضاح قواعد الفقه الكلية»، محمد صدقي آل بورنو، (1 /310)، بتصرف.
(3) «القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي»، د. محمد الزحيلي، (1/ 319).
(4) كتاب «التعالم وأثره على الفكر والكتاب»، الشيخ بكر أبو زيد، (1/ 72)، بتصرف.
(5) «المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام»، علي بن نايف الشحود، (1/ 581)، بتصرف.
(6) «إعلام الموقعين عن رب العالمين»، ابن القيم، (1/ 41).