يتعرض أبناء أمتنا العربية والإسلامية لحملات ضارية لاقتلاع هويتهم وتذويبهم في هويات أخرى وهم لا يشعرون، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وفي ظل متغيرات سريعة، وتطورات عالمية، وأزمات اقتصادية وسياسية، وتحولات اجتماعية، يزداد الخطر المحدق بالهوية، مع ظهور أجيال على قطيعة مع التاريخ والدين والجذور، أو على الأقل في حالة اغتراب، وشتات، وتيه، وضياع.
ما المخاطر التي تهدد هويتنا؟ وكيف نشكلها في ضوء المتغيرات المعاصرة؟ وما عوامل قوة الأمة؟ وما المطلوب لإنقاذ هوية الأجيال الجديدة؟
تساؤلات طرحتها «المجتمع» على عدد من الخبراء والعلماء، حيث تقول د. منى مدحت، أستاذ علم الاجتماع– جامعة عين شمس: إن الهوية هي كل الصفات والسمات التي تميز شخصاً أو جماعات أو شعوباً أو أمماً عن غيرهم، ويرتبط بقاء الهوية أو ضعفها أو حتى زوالها بقدر اعتزاز أصحاب هذه الهوية بها، فكم رأينا أمماً اندثرت عبر التاريخ، وأصبحت أثراً بعد عين؛ لأن أبناءها لم يعتزوا ويتمسكوا بهويتهم التي تميزهم عن غيرهم، فذابوا في هوية أمم أخرى، والكثير من الأمم ضاعت وزالت سريعاً ولم تترك بصمة خالدة في التاريخ الإنساني.
وأضافت أن تشكيل هوية الأمة يرتبط برباعية «الأرض والتاريخ واللغة والمعتقد»، فلا يمكن أن تتشكل هوية بدون أرض يستقر فيها شعب لديه تاريخ متواصل عبر الأجيال؛ بحيث يعرف أبناؤه المعاصرون تاريخ آبائهم وأجدادهم من خلال المناهج الدراسية، ووسائل التنشئة والتربية والإعلام والتثقيف، ومن أفضل الأوضاع أن يكون لأبناء الأمة لغة واحدة تجمعهم؛ لأن اللغة وعاء الفكر، كما أن أفضل وضع لهوية الأمة أن يكون معتقدهم الديني واحداً؛ لأن الدين أمر فطري.
هوية الأمة ترتبط برباعية الأرض والتاريخ واللغة والمعتقد
وأوضحت أن قوة أو ضعف تشكيل هوية أي أمة مرتبط بتحقق الرباعية السابقة في إطار من التكامل والترابط فيما بينها من جانب، وكذلك قوة كل عنصر بذاته؛ لأنه لا يمكن الفصل بينهم، ورغم أن الوضع المثالي يكون بوجود أكبر قدر من التوافق بين أبنائها من حيث العيش في أرض واحدة والتحدث بلغة واحدة واعتناق عقيدة واحدة، وتاريخ واحد، فإنه يمكن أن تكون هناك أمة لها هوية قوية، رغم أن أبناءها يتحدثون بلغات ويؤمنون بعقائد مختلفة، ويعيشون في مناطق متعددة، ولديهم تاريخ متنوع، إلا أنه تجمعهم أهداف عليا يؤمنون بها ويعملون على تحقيقها.
وأنهت كلامها محذرة من أن هوية الأمة العربية والإسلامية في خطر بظل إغراقها في الخلافات والصراعات الداخلية والخارجية، ولهذا لا بد من استشعار القائمين على أمور مؤسساتنا السياسية والتربوية والإعلامية لهذا الخطر ووضع سبل المواجهة للمحافظة على هويتنا التي تعتبر سر وجودنا في عالم يعاني من صراع ديني وحضاري، ومحاولة فرض هويات الأقوياء على العالم في عالم أقرب للغابة.
التربية الإسلامية
ويؤكد د. مصطفى محمد، أستاذ أصول التربية بجامعة سوهاج، أنه لا يختلف عاقلان أن الأسرة هي الأرض الخصبة التي يتم من خلالها تشكيل وزراعة الهوية في قلوب وعقول أبنائها الذين ولدوا صفحة بيضاء يسطرها الوالدان بما يريدان مع الهوية أو حتى ضدها، ولهذا فإن إصلاح أي خلل في قضية تشكيل هوية الأمة يبدأ من الأسرة، وكذلك أي خلل في منظومة الهوية يبدأ من الأسرة التي تجهل هويتها، فتكون هدفاً لأعداء الإسلام الذين يخططون وينفذون مخططات خبيثة طويلة المدى لتفكيك الأسرة المسلمة وطمس هويتها الدينية بتزيين الممارسات الشاذة من المثلية والحرية المطلقة للمرأة في حياتها وجسدها، والصداقة والمساكنة بعيداً عن الزواج الشرعي، وصدق د. عبدالوهاب المسيري حين قال: «الهوية هي حلبة الصراع الحقيقية بيننا وبين العدو».
ويضيف أن المنظمات العربية والإسلامية ذات الصلة مطالبة بوضع إستراتيجية مشتركة لرصد التحديات التي تواجه هوية الأمة ووضع الحلول الواقعية لها، ثم تجنيد كل مؤسسات التعليم والإعلام والثقافة لخدمة هذه الإستراتيجية؛ لأن هناك أهدافاً عليا مشتركة تجمع المسلمين، ولكن بعضهم ذاب في هوية المجتمعات التي يعيش فيها؛ لأنه لم يجد من يربيه تربية صحيحة على الاعتزاز بهويته، ولهذا لا مانع من الاستفادة من تجارب بعض الأمم التي تعتز بهويتها مع حسن التفاعل مع تحديات العصر.
النموذج الغربي
ويحذر د. مصطفى محمد من الانبهار بالنموذج الغربي الاستعلائي في التعامل مع هوية الآخرين والإيمان بنظرية اليهودي الصهيوني صمويل هنتنجتون التي أطلقها عام 1993م، ولها جذور استعمارية سابقة، وحملت تسمية «صدام أو صراع الحضارات لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد، لتكون السيادة للحضارة الغربية على الحضارات الأخرى، وقسمها إلى الحضارات: الإسلامية، اللاتينية، اليابانية، الصينية، الهندية، الأرثوذكسية، الأفريقية، البوذية، ومطلوب طمس هوية الحضارات لتكون ممسوخة.
يجب وضع إستراتيجية مشتركة لرصد التحديات وسبل مواجهتها
وتزامن ذلك مع نظرية لتلميذه فرانسيس فوكوياما التي أطلق عليها «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، وهما من عملاء المخابرات الأمريكية والأوروبية، حيث زعما أنه لن تكون هناك دول قومية ذات هوية، وإنما ستكون هناك صراعات تحركها الاختلافات الثقافية، ستحاول كل حضارة فرض هويتها، وأكثر حضارة ستكون مستعصية على الذوبان هي الحضارة الإسلامية، ووضعوا مخططاتهم لتذويب المسلمين سواء في الدول ذات الأغلبية أو الأقلية لتذويب هويتهم وانتمائهم الإسلامي من خلال جعل حدوده أكثر دموية وإشعال الصراعات الداخلية من خلال الاختلاف وخاصة العرقي والديني.
وتساءل: هذه مخططاتهم معلنة لطمس هويتنا، فماذا نحن فاعلون؟ داعياً إلى التحرك الجاد والمخطط والسريع للمواجهة ومعالجة جوانب القصور الحالية؛ لأن لدينا أجيالاً جديدة فريسة لتيارين كلاهما خطر على هويتنا، أولهما تيار التغريب والعلمنة، ورأينا تأثيره على كل مجتمعاتنا بما فيها مجتمعات كانت تدعي أنها حامي حمى الشريعة، والتيار الآخر هو التشدد والتطرف الذي يصل إلى استحلال دماء وأعراض وأراضي وأموال المخالفين لهم المسلمين وغير المسلمين، ويتعبدون إلى الله بذلك، ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً مع أنهم الأخسرون أعمالاً.
مقاومة الذوبان
ويؤكد د. محمد النينوي، عميد كلية المدينة المنورة للدراسات الإسلامية بالولايات المتحدة الأمريكية، أن الإسلام عبر تاريخه يؤمن بتعاون الهويات والحضارات، بدليل أن المسلمين لم يعملوا على طمس كل مظاهر هوية الشعوب التي فتحوها، بل إنهم قاوموا بتقويمها للأفضل بما لا يتعارض مع عقيدة التوحيد.
أكثر حضارة ستكون مستعصية على الذوبان الحضارة الإسلامية
وأشار إلى أنه من الخطأ النظر إلى الغرب كتلة واحدة ضد الإسلام، بل هناك كثير من المؤسسات والمفكرين المنصفين، ونعمل على التواصل معهم؛ لإيمانهم بأن الاختلاف في الدين والهوية سُنة إلهية كونية، ولا يمكن إذابة المسلمين وخاصة الذين يعيشون في الغرب في مجتمعاتهم وإنما يكون مسلماً غربياً معتزاً بهويته وجذوره.
وطالب النينوي علماء الأمة بأن يقودوا سفينة المحافظة على هوية الأمة للنجاة من الأمواج العاتية، وسد الثغرات في جبهة الهوية من خلال تزيين الاختراق والتبعية، والزعم بأنها سفينة النجاة، ومحاولة اتهام الإسلام بما ليس فيه، وتوحيد الصف، وتحقيق النهضة الشاملة بما يحفظ هوية الأمة بين الأمم.