ما تزال حرب العدوان في غزة تلقي علينا بشعور متضارب بين فرحة الصمود وصمود هذه الفرحة، فلا تكاد تمر لحظات الانتشاء حتى تعقبها ساعات الألم على الشهداء والمصابين والأسر الثكلى، وما تكاد ترى مقاطعهم وأصواتهم تصرخ الله أكبر، فقدت 31 فرداً من عائلتي؛ أبي وأمي وعائلتي استشهدوا، في الجنة يا قلبي، أبوك استشهد يا يمّا.
أصوات تقطع الأكباد وتذيب الأفئدة وتحرك الجبال الرواسي وتخلق في القلب ثارات لا يمحوها إلا قرة الأعين بزوال الكيان بنصر الله الموعود ويقيننا فيه القرب والعلو الكبير.
ومن هذه القصص صرخة هذه المرأة الثلاثينية وهي تفتش بين الشهداء والمصابين عن وليدها، وهي تقف بين أطباء المشفى، ومن هؤلاء الأطباء زوجها، وهي تحاول وصف ابنها ذي السبع سنوات قائلة بصوت متهدج يملؤه الخوف والرجاء واليأس والترقب: «شعره كيرلي وأبيضاني وحلو».
نعم، هكذا وصفته أمه وهي تبحث حتى عن جثته، هكذا تراه أمه بعين قلبها التي لا تفتر عن حبها شعره الذي لا طالما شممته واحتضنته وحلمت بأن تراه رجلاً تستند إليه في سنوات الكبر، هي لا تصف قتيلاً بالقصف، هي تصف عريساً تراه بين عينيها فتى عذب الروح قوي البنان حلو الهيئة والمحيّا.
دارت العيون يمنة ويسرة فلم تجده، أراها بعضهم صوراً لأطفال فلم تجده بينهم، ذهبوا لقسم آخر بخطوات سريعة لكنها أثقل من أقدام أفيال الحبشة في طريق هدم الكعبة، لا شيء أوجع من البحث عن جثة ابنك، فإنك في رحلة من الحزن تبدأ من نهايتها، هكذا رأته في إحدى صور المسعفين الذي حبس أنفاسه قبل أن يخبرها أنه حمله إلى غرفة الموتى.. ولك أن تتخيل باقي المشهد!
بطل آخر في هذه القصة هو ذلك الطبيب الصامد البطل صاحب الوجه الحديدي الذي كان يبحث عن ابنه بكل رضاء وتسليم، حتى حين رآه بين الشهداء لم يزد على أن قال: «الحمد لله.. الحمد لله»، وأسبلت عيناه في الدموع ثم عاد إلى تطبيب الجرحى دون أن يمتلك رفاهية الانهيار.
هكذا تصنع المحن الرجال الأبطال والنساء القدوات والأطفال السابقين إلى الجنات، فلا نامت أعين الجبناء والمخذِّلين.