دلالات مهمّة تبعث بها الحشود البشرية المتعاظمة التي تتدفّق تحت راية فلسطين عبر الميادين الأوروبية والغربية وعبر العالم بأسره، فما يجري يعني بوضوح أنّ فلسطين كسرت حصاراً مُطبقاً ضُرِب فجأة حول روايتها في البيئات الأوروبية – الغربية، وأنّها تواصل كسب جولة الرواية في الفضاء العالمي أيضاً.
أسفر المشهد المتفاعل في ظلال «طوفان الأقصى» والعدوان على قطاع غزة عن انفصال الحكومات الأوروبية والغربية عن الشارع وافتراقها عن نبض الشعوب، من الدلالات الواضحة على ذلك أنّ تظاهرات مساندة الاحتلال بدعوى الوقوف مع «إسرائيل» والتضامن معها، بعد السابع من أكتوبر حشدت أعداداً محدودة نسبياً، رغم أنّها تحرّكت برعاية رسمية غالباً وبتسهيلات واضحة من السلطات وبجهود دعائية مباشرة من جانب حكومة الاحتلال وأذرع وزارة الخارجية ومنظومتها التضليلية المعروفة بـ«هاسبارا» (السبْر، الشرح).
وفي المقابل، يحتشد مزيد من الجماهير في مظاهرات بأعداد قياسية رغم الحظر الذي فُرض على عدد وفير من المظاهرات والتجمّعات الجماهيرية التي تنادي بحرية فلسطين، ورغم أنها طوردت إعلامياً وجزائياً، ووقع تشويهها بلا هوادة، فإنها تعاظمت ولم تتقلّص.
فلسطين تكسب، إذن، في حلبة الصراع على الوعي رغم وطأة التشويش والتحامل، ورغم حُجُب التضليل الكثيفة التي تستهدف تعطيل التفاعل الوجداني مع ضحايا حملة الإبادة والتطهير العرقي والجرائم الوحشية التي يقترفها جيش الاحتلال في قطاع غزة.
تبدو نخبة السياسة في الدول الأوروبية والغربية عالقة في جوف فقاعة الرواية الرسمية للأحداث، التي هي نسخة مطوّرة عن حملة الاحتلال الدعائية، وما يفاقم هذه الفقاعة أنّ وسائل إعلام محترمة انزلقت إلى خندق التعبئة الدعائية المُكرّسة لتبرير جرائم الحرب الوحشية، ولوْم الضحية الفلسطيني، وتسويغ أعمال الإبادة التي يقترفها جيش الاحتلال في قطاع غزة بمساندة أمريكية – أوروبية مُعلنة، انقلبت البرامج الحوارية من تعدُّدية الآراء إلى تنويع طرائق عرض مضامين كرّاس التعليمات المعتمد، وهو كرّاس تلقيني موجود حقّاً وتسرّب نموذج منه من شبكة المحطات العامّة الألمانية (ARD).
لم تفلح التعبئة السياسية والإعلامية الجارفة في عزل فلسطين وخنْق صوْتها وإسقاط رايتها أو حجب كوفيّتها التي ترمز إلى النضال، ولم ينجح التوظيف التهويلي لحدث السابع من أكتوبر في أن يسطو على إرادة الجماهير التي تحرّكت وحفّزت من بعدها مزيداً من الجماهير على النزول إلى الميدان.
عادت الحركة الجماهيرية على المنصّات السياسية والصناعة الإعلامية بإحراجات بالغة مع توالي المشاهد الحيّة من ميادين القصف الوحشي؛ ومع تعاظم مؤشِّرات الضحايا الأطفال والنساء والمدنيين؛ وافتضاح الجرائم ضد الإنسانية التي يقترفها جيش الاحتلال حتى في مقوِّمات الحياة الأساسية.
بدت الحكومات والصناعة الإعلامية الأوروبية والغربية في تفاعلها مع الحدث في واد؛ وحركة الجماهير في وادٍ آخر، عبّرت مواقع التواصل عن هذه الفجوة إلى حد الانفصام بين شاشات التلفزة والشبكات الاجتماعية، تمرّدت مضامين مواقع التواصل على الرواية الدعائية المعتمدة رسمياً وإعلامياً في الدول الأوروبية والغربية، وصارت بعض التقارير الصحفية والتلفزيونية أضحوكة في المداولات الإعلامية بعد انكشاف سذاجة حبكتها التضليلية إلى حدّ التزييف المُفتعَل.
بلغ الذعر من مفعول الفضاءات الشبكية حدّ مسارعة حكومات وسلطات في دول أوروبية وغربية إلى التواصل مع الشركات المُمسكة بمواقع التواصل لتفعيل خيارات حجْب ورقابة، علاوة على الجهود الدؤوبة التي تتولاّها، أساساً، أجهزة الاحتلال المختصّة بذلك، وعلى التوازي من ذلك كثّفت أجهزة الاحتلال وأذرعها نشاطات التضليل الشبكي وسعت في شراء ذمم مؤثِّرين لدعم سردية الاحتلال والعدوان، وانكشف ذلك عندما أفصح بعض المؤثِّرين عن رفضهم عروضاً مالية سخيّة في هذا الشأن.
ولمحاولة صرف الجمهور عن متابعة مواقع التواصل، قدّمت وسائل الإعلام وبعض الهيئات التعليمية والإرشادية الرسمية وشبه الرسمية توجيهات وتحذيرات للجمهور في بلدان أوروبية تقضي بالابتعاد عن متابعة مواقع التواصل، وتجنُّب مشاهدة الصور والمقاطع المتدفِّقة عبرها، بزعم أنها مضرّة بالصحة النفسية أو تُسبِّب الاكتئاب، كما قيل في محطات عدّة، دون التحذير من عواقب التضليل والتزييف الذي تطفح به الصناعة الإعلامية على الوعي الجماهيري والثقافة المجتمعية بما يدور في العالم.
لكنّ ذلك كلّه لم يكبح موجة التفاعل مع غزّة في مواقع التواصل، ومن مؤشِّراتها أنّ المنشورات والمواد الداعمة لفلسطين تحظى برواج منقطع النظير، حتى إنّ بعض البرامج التلفزيونية لقيت تفاعلاً هائلاً في المتابعة الشبكية والتداول في مواقع التواصل عندما كان مضمونها منصفاً لفلسطين ومقاومتها أو مناهضاً للاحتلال وعدوانه، أحرزت حسابات في مواقع التواصل قفزات قياسية في أيّام معدودات لأنها قدّمت رواية نقدية مُعاكسة للمضمون الدعائي المعتمد في المنصّات السياسية ووسائل الإعلام الأوروبية والغربية، ومن أمثلة ذلك حساب الشاب الأمريكي من ميامي جاكسون هينكل على منصّة «إكس»، وحساب الصحفي الفلسطيني معتز عزايزة على إنستغرام.
قدّمت وفرة من الحسابات الشبكية والمقاطع المتداولة، بجهود فردية أحياناً، تفنيداً حصيفاً لمرتكزات دعاية التضليل التي تخدم العدوان وتتستّر على جرائم حربه، ما قصّر المدى الزمني لصلاحية تلك الأحابيل الدعائية ونزع المصداقية عن وسائل الإعلام التي كانت تُعدّ نافذة أمينة للإطلالة على العالم.
برلين يا جماعة. الشباب الاسرائيلي الذي نبذ الصهيونية يذهب للعيش فيها. اغرب شيئ اكتشفه باحث امريكي ذكر لي هذا في مقابلة اذاعية معه. pic.twitter.com/NZ5KAGcwz7
— Samar D Jarrah (@SamarDJarrah) October 29, 2023
من مفارقات هذا المشهد أنّ مواقع التواصل الاجتماعي صارت وجهة الباحثين عن صورة غير مزيّفة للواقع في فلسطين؛ بينما علقت وسائل الإعلام التابعة للقطاعين العامّ والخاصّ في حبكة الاحتلال الدعائية التي تنضح بالأخبار المزيّفة والمواد المُضلِّلة؛ التي تُوظّف في خدمة التحيُّز الصارخ وتأطير ما يجري في خدمة الموقف السياسي المعتمد، حرّكت هذه الأزمة اضطراباً داخلياً في بعض وسائل الإعلام وسبّب انشقاقات معلنة وإجراءات فصل، وقد تتعاظم هذه الشروخ إن لم تستدرك هذه الوسائل وتصحِّح مسلكها.
غنيّ عن البيان أنّ الاحتلال ابْتَنى لذاته منظومة تضليل دعائي؛ تبدو للوهلة الأولى عظيمة الكفاءة في الاشتغال والتأثير العالمي، لكنّها تواجه في الواقع معضلات متأصِّلة، فهي تراهن على التشويش بينما تعجز عن كسب العقول والقلوب.
يتمثّل مأزق هذه المنظومة، أساساً، في واقع الاحتلال والعدوان الذي تعجز أيّ دعاية كانت عن طمسه وتزييفه بالكامل، أمّا تقديمه في غلاف إنساني وأخلاقي وفي دور الضحية كما يفعل الاحتلال فيرتدّ بعواقب جسيمة على الاحتلال عندما يُحاكم بهذه المعايير الإنسانية والأخلاقية وبمنطق البكائية والمظلومية الذي لا ينسجم مع الفظائع التي يقترفها على مرأى من العالم.
ومن عِظات الواقع أنّ هذا الاحتلال لم يُصمّم لزمن التشبيك والتصوير والبثّ، فأداة التواصل الجماهيري التي يحملها كلّ فرد في جيْبه؛ قادرة على أن تحمل المواطن العالمي أينما كان إلى موقع الحدث في غزة أو أن تزرع في ذهنه وضميره أسئلة الشكّ بسلامة الوجهة السياسية والإعلامية المفروضة، وأن تعطِّل منظومات دعائية جرّارة بمنطق الواقع الذي لا يُحجب، وبقوّة الحقيقة التي لا تُطمَس.