إن الناظر في بشارة القرآن الكريم والسُّنة المطهرة للأمة بحماية مرجعيتها من التحريف والتجريف: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، ورعاية الله الدين باستيعابه المستمر على مدار العصور والأزمنة للمستجدات، وإجابته عن جميع الأسئلة والاستفسارات، وإكرام الأمة بعد ختم النبوة بمن يجدد لها دينها كما في الحديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (رواه أبو داود)؛ ليؤكد أن دين الله تعالى ليس وقفاً على أحد بعينه، أو على فئة أو حزب أو دولة أو كيان، بل هو متجدد متلألئ على مدار العصور والأزمنة، وليس على الأفراد والهيئات إلا التأهب للاستعمال، ولا خوف على الدين أن يندثر، ولا على معالمه أن تختفي، ولكن الخوف على الأمة ألا تُستعمل، وعلى الأفراد والمؤسسات أن يستبدلوا.
وعلى هذا الأساس، فإن الأمة لم تكن بحاجة إلى ضبط بوصلتها وتحديد هدفها كحاجتها في تلك الأيام العصيبة، ونظرة مجملة على تاريخها القريب يتبين منها أن الله تعالى قيَّض الدولة العثمانية لحماية الأمة قروناً عديدة، حافظت فيها على وحدتها ومقدساتها وهويتها، حتى تمكن المتآمرون بعد جهد جهيد من إسقاطها، فضاعت المقدسات، واغتُصبت الأوطان، وذهبت الوحدة وعمت الفرقة، فنتج عن ذلك أمران:
الأول: واقع جغرافي رسمت معالمه منظومة الاحتلال الأجنبي على أساس المزيد من التفريق والتعصب والتنازع، أو ما يسمى دولة «سايكس بيكو» التي ظلت مائة عام واقعاً مفروضاً على الأمة، حتى تآكلت دعائم دولة «سايكس بيكو»، وتهاوت مقوماتها، وسقطت معالمها وبَليت قواعدها، وتصدعت جدرانها، فلم تعد تقوى على الاستمرار، ومن هنا فواهم من يعتقد أن يعود اليمن يمناً كما كان، أو الشام شاماً كما عاشت، أو مصر مصراً، أو العراق عراقاً، أو أن يبقى الخليج خليجاً، لكن يقيناً ستبقى الشعوب والجماهير والأمة.
الثاني: حركات إسلامية، وتيارات إصلاحية وتنظيمات دعوية ومؤسسات شرعية حافظت على هوية الأمة، وغرست القيم، ودافعت عن معالم الدين ومبادئه منذ إسقاط الخلافة إلى وقتنا هذا، وبمرور الزمن أيضاً تآكلت بعض مقومات تلك التنظيمات، وتصدع الكثير من جدرانها، وقل اكتراث الناس بالتوجيه الديني بصفة عامة، فإذا انحازت تلك التيارات إلى ثوابتها التي قامت من أجلها، التي تمثلت في الحفاظ على وحدة الأمة، وحماية المرجعية الشرعية بالتحاكم إليها وإقامة دين الله في الأرض، وذلك بتجديد انطلاقتها، وتطوير أدواتها، وإعادة تموضعها وفق استشراف مستقبل علمي أمين، فإن غرسها حينئذ سينبت ويزهر ويثمر، كشجرة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، وإن لم تفعل فإن سُنة الله في الأمم كسنته في الأفراد؛ لكل أمة أجل، وعلى كل الأحوال سيبقى الإسلام والمسلمون، وستبقى الأمة متجددة العطاء ما بقي فيها القران والسُّنة.
ويبقى السؤال الذي يجب طرحه الآن: ماذا نريد حقاً؟
هل نريد إعادة الأمة الواحدة التي حمت المقدسات وحفظت الأوطان، وأقامت الدين؟ أم نريد إحياء دولة «سايكس بيكو» التي ألِفنا العيش فيها قرناً كاملاً ذقنا فيه مرارة الطغيان وآلام الحرمان، ومذلة التبعية؟ أم نريد إعادة تنظيمات الحركة الإسلامية على أي وضع، دون تطوير أو مراجعة أو إعادة تموضع، معتقدين أنها الدين الباقي والرسالة الخالدة!
وأعتقد أننا إذا أحسنا الإجابة عن هذا السؤال، فإنه من اليسير بعدها أن نخرج من أزمتنا، وأن نحدد وجهتنا، وأن نعلن رؤيتنا وأن نُعِد وسائلنا وأدواتنا.
وقبل الإجابة يجب علينا أن ندرك أن الأمة مرت بمراحل كثيرة في تاريخها، سقطت فيها أنظمة عديدة، وفقدت فيها أوطاناً ورواداً وقادة وعلماء، وبقي الخير في الأمة قائماً، والدين في الأرض واصباً، فبقاء الأمة لا يرتبط بوجود أحد أو فقده.
وأعتقد أن الخيار الأوحد أن ندرك سنن الله في التغيير، وأن نستلهم منهجية التجديد، بأن ننحاز إلى كلياً لقضية صلبة، أو أرضية مشتركة، أو مشروع جامع تتوفر فيه المشروعية المجتمعية، والمظلة الشرعية، والإجماع الشعبي، يتمثل الحل في الانحياز لراية تُرفع، يؤمن الناس بقدسيتها، وتتفق الأمة على نصرتها، وتتسابق الأيادي لنجدتها، وهو مشروع تحرير القدس وفلسطين، وإن شئت أن تكون دقيقاً في تعبيرك فقل: تحرير القدس وفلسطين للأمة من أغلال الخنوع والتبعية، فالأمة سُتحرر حقاً يوم أن تصدق في الدفاع عن رايتها التي تسلمها النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء في معجزة الإسراء والمعراج، مع التأكيد التام أن هذه الأمة لن تموت، وسيبقى الخير فيها إلى يوم القيامة ما بقي الدين وما بقيت الحياة، ومع التأكيد كذلك أن هذه الأمة لا تنقصها الطاقات والإمكانات، ولكنها للأسف عندها فائض في إهدار تلك الطاقات والإمكانات لغياب المشروع المُلهم، وضبابية الرؤية الجامعة.
هل هناك فرصة للبعث الجديد؟
إذا أدهشك ما رأيت من سقوط مؤلم للأوراق الذابلة، والنفوس المعطوبة، والقلوب المدخولة، والعقول المعلولة فلا تتوقف عندها كثيراً، وما عليك إلا أن تبحث عن الحقائق لتتشبث بها، وعن الثوابت لتعتصم بها، وعن مقومات النصر ورجالاته لتصبر نفسك معهم، وأن تعيد النظر وتجدد العزم ثم تنطلق.
ستجد قبل انطلاقتك الجديدة أن هناك ما يجب أن تتعرف عليه، وأنك لست وحدك، وأن الخير لم ينقطع، وأن الحق لم يندثر.
– هناك رب قدير لا يظلم أحداً، ولا يرضى الظلم لخلقه، ولا يتخلى عن عباده، ولا يضيع أولياءه، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه تعالى قد يترك يد الظالم تعبث حتى تظن أنها تمكنت ثم سرعان ما تمتد يده سبحانه فتقطعها فكأنها ما كانت، سيموت كل الطغاة ويبقى الصراع بين الحق والباطل، وتتبدل الأمم وتتداول الأيام كما خلقها الله تعالى، قال تعالى: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140).
– هناك جيل من الشباب أعرفه، رزقه الله الفطنة، ووهبه الله الحكمة ومنحه الله القوة، فلا يعرف اليأس له طريقاً، ولا يعرف الخنوع لنفسه سبيلاً، ولا يعرف الذل لهامته مسلكاً، بل هم أثبت من الجبال، وأحرص على الشهادة من حرص عدوهم على الحياة، وأزعم أن الله تعالى قدر هذه الأحداث ليصنعه (جيل الشباب) على عينه، لينصر به الأمة ويرفع به الراية.
– هناك تضحيات لن يضيع الله أهلها، ودعوات لن يخيب الله رجاءها، وجهود لن يخذل الله أبطالها، وشهداء لن يضيع الله حقوقهم، وأسرى لن يهدر الله صمودهم، ومظلومون لن يؤخر الله نجدتهم.
– هناك عشرات الآلاف من الأخفياء الأصفياء لا يعرف الناس أسماءهم، ولكن الله يعلمهم.
– هناك من يصحح المفاهيم، ومن يعيد الوعي للجماهير، وهناك من يعيد النظر، ومن يصوّب الفكر، ومن ينطلق في مؤسسات علمية أو بحثية أو حقوقية أو إعلامية أو إغاثية.
– هناك في كل الأقطار من يبحثون عن مسلك، ويتطلعون إلى مخرج، ويتحرقون صباح مساء حزناً على ما أصاب أمتهم، تراهم على أهبة الاستعداد دائماً للتضحية بأغلى ما يملكون، إذا وجدوا رؤية صدق، أو سبيل نجاة.
– هناك من نساء الأمة وفتياتها من ضربن في التضحية أمثلة لم تخطر لأحد في عصرنا على بال، وفي الثبات ما لم نجده في كثير ممن يعدون على الرجال، وفي الإقدام ما يفوق الشجعان، وفي اليقين ما يذهل العباد.
والأمة لن يذهب خيرها ولن يجف مددها، ولن تسقط رايتها، وإن تأخر قوم جاء الله بغيرهم.