لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالإنفاق في سبيل الله، فقال: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة: 195)، وقال عز وجل: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (المنافقون: 10)، وقال أيضاً: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (التغابن: 16)، فهذه أوامر بالإنفاق في سبيل الله.
ماذا ننفق؟
إن الله تعالى الذي أمرنا بالإنفاق في سبيله هو الذي حدد لنا ما ننفقه؛ وهو الخير، حيث قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215).
وكلمة «خير» في الآية الكريمة نكرة، والنكرة تفيد العموم، وكأن المعنى أن الإنفاق يكون من الخير، أياً كان نوع هذا الخير ومقداره، وفي هذا توسعة لباب الإنفاق والعطاء في سبيل الله.
وقد بيّن القرآن الكريم أن إنفاق الخير في سبيل الله يكون من العفو؛ أي الخير الزائد من الأخلاق والأموال، وهنا يتبين أن العفو الذي ينبغي أن ننفق منه نوعان؛ الأول: عفو مادي، والثاني عفو معنوي.
أما العفو المادي فهو الذي ينفق فيه الإنسان ما زاد من ماله عن قوته وقوت عياله في سبيل الله، وفيه نزل قول الله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) (البقرة: 219)، قال السعدي: هذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم، فيسر الله لهم الأمر، وأمرهم أن ينفقوا العفو، وهو المتيسر من أموالهم، الذي لا تتعلق به حاجتهم وضرورتهم، وهذا يرجع إلى كل أحد بحسبه(1).
ومن هذا العفو المادي ما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان المبارك، حيث كان ينفق المال ويتصدق في رمضان أكثر من غيره، ففي الحديث الشريف، الذي رواه البخاري ومسلم عن عبدالله بن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
في الحديث إشارة إلى أن العطاء قرين الإيمان والعبادة، فكلما زاد إيمان العبد وقربه من ربه؛ زاد عطاؤه وإنفاقه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتصدق كثيراً، لكن صدقته وإنفاقه حين يلقاه جبريل ويدارسه القرآن تكون أكثر وأوسع، فكأن العبادة لله والتقرب منه بقراءة القرآن والصيام تدفع المسلم إلى الإنفاق والعطاء.
كما يشير الحديث الشريف أيضاً إلى أن العطاء في رمضان لا يقتصر على أحد دون أحد، بل يسع الناس جميعاً، وهذا واضح في قول ابن عباس: «فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»، فالتعبير بالريح المرسلة يؤكد أن عطاءه يعم الجميع كما تعم الريح المرسلة جميع الناس ولا تستثني أحداً.
ومما يؤكد هذا المعنى ويغرسه في النفوس أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعانا إلى إفطار الصائمين بقصد تربية النفس على العطاء، ولكي يرغبنا في ذلك جعل لهذا الأمر ثواباً عظيماً، ففي سنن الترمذي بسند صحيح، عن زيد بن خالد الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره، غير أنه لا ينقصُ من أجر الصائمِ شيئًا»، وليس هذا الثواب لمن فطّر مسكيناً أو فقيراً فقط؛ بل إنه مضمون لمن فطّر الصائم مطلقاً، حيث إن الحديث لم يحدد إفطار الصائم الفقير فقط.
ومما يؤيد هذا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سمعوا هذا الحديث تسابقوا إلى تنفيذه، وحرصوا على تطبيقه، فقد روى ابن ماجه أن سعداً بن معاذ جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يفطر معه، فلبّى النبي صلى الله عليه وسلم دعوته، وبعد الإفطار قال صلى الله عليه وسلم: «أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم الأبرار، وصلَّت عليكم الملائكة»، وفي هذا دليل على أن إفطار الصائمين لا يقصد به إطعام المساكين فقط، بل يقصد به إطعام الأهل والأصحاب وغيرهم.
وكان رجال من بني عدي –قوم سيدنا عمر بن الخطاب- لا يفطرون وحدهم أبداً في رمضان، فإذا وجدوا من يفطر معهم أخذوه إلى بيتهم، وإلا أخذوا طعامهم إلى المسجد فأفطروا وأفطر معهم الناس(2)، وكان حماد بن أبي سليمان يفطر في رمضان 500 إنسان(3)، وعن أبي جعفر محمد بن علي قال: لأن أدعو عشرة من أصحابي فأطعمهم طعاماً يشتهونه أحب إليّ من أن أعتق عشرة من ولد إسماعيل(4).
فهذه المواقف تؤكد أن رمضان شهر الإنفاق والعطاء لكل الناس، وهذا هو النوع الأول من عطاء العفو في رمضان؛ وهو العفو من المال.
أما النوع الثاني من إنفاق العفو فهو العفو المعنوي، ويقصد به كل حَسَن من الأخلاق، ويدل عليه قول الله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف: 199)، قال الإمام الطبري: أي خذ العفو من أخلاق الناس(5)، ومن أهم مظاهر إنفاق العفو المعنوي في رمضان أن ينفق المسلم خلق العفو عن الناس، فيسامحهم ويصفح عنهم، ويتصدق على كل من خاض في عرضه بالعفو والمسامحة، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك، ففي سنن أبي داود، عن قتادة، قال: أيعجِزُ أحدُكُم أن يكونَ مثلَ أبي ضَمْضَمٍ، كان إذا أصبَحَ قال: اللهمَّ إني قد تصدَّقتُ بعِرْضي على عبادِك، وفي هذا دليل على عفوه عن الناس، وذلك طلباً لعفو الله تعالى، فمن عفا عن الناس؛ عفا الله عنه.
وإن رمضان شهر العفو، وخاصة في العشر الأواخر منه، حيث ليلة القدر وما فيها من خيرات وبركات، وهي الليلة التي أوصانا فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أن نطلب العفو من الله تعالى، فقد روى الترمذي وابن ماجه، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر، ما أقول فيها، قال: «قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني»، فالله تعالى يعفو عن عباده ويغفر لهم، والمسلم يتصدق على الناس بالعفو عنهم، كما يتصدق بالعفو من ماله، طلباً لعفو الله ومثوبته.
______________________
(1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: عبدالرحمن بن ناصر السعدي، ص 98.
(2) مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي، ص 40.
(3) سير أعلام النبلاء: للذهبي، (5/ 530).
(4) مجموع رسائل الحافظ ابن رجب الحنبلي، ص 41.
(5) تفسير الطبري، (10/ 639).