رمضان شهر الخيرات والبركات، والكف عن المحرمات، فرض الله تعالى صيامه على المسلمين، وعلل الصيام بالتقوى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).
ومن التقوى الحياء، وحفظ الأبصار عن رؤية الحرام، وحفظ الأسماع عن سماعه، ومعصية النظر إلى الحرام تكاد تكون المعصية الأكثر وقوعاً في هذا الزمن، بل هي الأكثر، ويقترن بها في الغالب معصية سماع الحرام، وإن كان النظر إلى الحرام أكثر من سماعه.
وقد أمر الله تعالى المؤمنين، وأمر كذلك المؤمنات بغض البصر؛ لأن ذلك مقتضى الإيمان والمراقبة، فقال سبحانه: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ {30} وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ (النور).
كذلك فإن حفظ البصر يعين على حفظ الفرج، وحفظهما معاً يحفظ الإنسان من الندامة يوم القيامة، فالنظرة المحرمة إذا كانت سهماً مسموماً، فإن المتأذي بذلك هو القلب، إذ كلما أُطلق البصر في الحرام، أوغل القلب في الظلام، وعلاه الدغل والران، وربما ارتد هذا الران المظلوم سواداً في البصيرة، تعمى به عن رؤية الحق أو تعشى عن إدراك الهدى، حيث تختلط الأمور على المرء، فلا يكاد يعرف معروفاً أو ينكر منكراً، أو يتذوق للحق حلاوة، ولا للباطل مرارة.
وإن حلاوة الإيمان تورِّث أحاسيس سامية، فيها عوض وسلوى عما يخدع به الشيطان اللذائذ المحرمة، لكن الله تعالى يعلم ضعف الإنسان، ويعلم أن الامتناع التام عن النظر غير ممكن من المكلف البصير، ولهذا كان أمره سبحانه أن يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، ولم يقل: يغضوا أبصارهم، فاكتفى منا بالجد في المجاهدة في كف النظر عن الحرام، بحيث إذا أصاب البصر نظرة إلى حرام، نازعت النفس صاحبها حتى لا يثنِّي هذه النظرة تعظيماً لأمر الله، وقد قال النبي ﷺ لعلي رضي الله عنه: «يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة».
وغض البصر وحفظ الفرج إن كان فيه كف للنفس عن أسباب المهالك، فإن له أيضاً مقابلاً، بل إن مقابله لا يقابله شيء من متاع الدنيا ولو حيزت، ولا تعادله زخارفها ولو اكتملت، قال عليه الصلاة والسلام: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجله أضمن له الجنة»، ولما كان غض البصر هو أكبر معين على حفظ الفرج؛ قدِّم غض البصر على حفظ الفروج في الآية؛ لأن النظر بريد الفاحشة، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشد والقدرة عليه أصعب.
السلف الصالح وغضّ البصر
عني السلف الصالح بغض البصر عناية عظيمة، فوجدنا منهم مواقف ومواعظ في هذا الباب تنبئ عن علو همتهم في هذا، ومن ذلك قول أنس رضي الله عنه: «إذا مرت بك امرأة فغمض عينيك حتى تجاوزك».
ويقول أبو الحسين الوراق: «من غض بصره عن محرم أورثه الله بذلك حكمة على لسانه يهدي بها سامعوه، ومن غض بصره عن شبهة نوّر الله قلبه بنور يهتدي به إلى طريق مرضاته».
وقال القرطبي: «البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله».
وقال ابن الجوزي: «كان في عصرنا أبو الحسن بن أحمد الحربي لا يمشي إلاّ وعلى رأسه طرْحة، ليكفّ بذلك بصره عن الانطلاق».
كل هذه الآثار عن السلف لتدل على خطر النظر إلى المحرمات، وما يسببه من فساد القلب، فمن أراد صلاح قلبه في هذا الشهر الكريم فليجتنب المحرمات، وليغض بصره عنها، وليحفظ سمعه منها، ولو مكث أكثر وقته في المسجد لئلا يشاهد المحرمات، وكان أبو هُرَيْرَةَ وأَصْحَابُهُ إِذَا صَامُوا قَعَدُوا في المَسْجِدِ، وقَالَوا: «نُطَهِّرُ صِيَامَنَا».
والمؤمن مأمور بغض بصره عما حرم الله عليه في الأحوال والأزمان كافة، ويكون الأمر أشد في رمضان؛ إذ هو شهر العبادة، وشهر التقرب إلى الله سبحانه، فلا يليق بالمؤمن أن يفعل في هذا الشهر ما يبعده عن ربه، وهو أحوج ما يكون قريباً إليه.