الصمت عنكم مؤلم، وحبر القلم خانق يكاد يجف ويسأم من أقلام وأقوال دون أفعال! فنحن كما قال النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم: «غثاء كغثاء السيل»، «ولينزِعَنَّ الله المهابة من قلوب عدوكم لكم»، أمة لا وزن لها في قلوب أعدائها، وعدوها لِمَ يَهاب إسالة دمائها واستباحة أعراضها مع نفاق وخذلان ووهن أصاب قلوب أبنائها؟!
من حبٍّ لدنيا أصبحنا منغمسين في متطلباتها، فأي وهن أشد من هذا؟! تلاوات ليلٍ رمضاني تخرج من قلوب باردة غفلت عن حقوق إخوانها ولا تغار لحُرُمات ومقدساتها، فكيف السبيل؟
فهل نجعل رمضان شهر تغير حقيقي لأنفسنا؟ وهل يكون رمضاننا شهر رباط لغزة العزة وليكن شعارنا فيه «رمضاننا غزة»، نتذاكره في كل لحظة ونعد العدة.
فماذا يعني رمضاننا غزة؟ يعني أن نعيش بشكل جديد قلباً وقالباً، بأن تكون هناك قفزة نوعية تتغير فيها الأنفس لتصبح نفساً تقية نقية تليق باللحظة التي تعيشها الأمة؛ وما تمر به من محنة، لتصبح نفوساً مُصغية ومناصرة للحق ومجاهدة في موسم جاء ليُعوِّدَها على البذل والإحساس بما تمر به الأمة عامة وغزة خاصة، ألمٌ لا تستطيع الجبال الرواسي تحمله! ليجعل من غزة بوصلة الثبات والتحدي لطغاة الأرض، لرجال تفردوا بالصدق مع ربهم، قال نبينا صلى الله عليه وسلم عنهم: «لا يضرهم من خذلهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك».
وهل يصعب معرفة من خذلهم؟ فمن لا يسعى لرفع العجز الذي أصابنا بأي وسيلة بما آتاه الله من علم ومال لتحرير الأنفس أولاً من خوفها ونُعرِّف الناس وبما يحدث لإخواننا في غزة.
وها هو رمضان جاء لنُعد أنفسنا على خشونة العيش ونجلس نفكر لغزة لنرفع عنهم ما هم فيه من خذلان، فماذا يعني رمضاننا غزة؟
رمضاننا غزة يعني أن نعرف قدر غزة بأطفالها ونسائها وشبابها، تلك الصفوة الذين رفعوا الحرج عنا، فأصبح جهاد الصهاينة لتحرير المقدسات فرض كفاية، فجاهدوا وما زالوا، ولو لم يقم به أحد لأصبحت الأمة جمعاء آثمة! ولأصبح الجهاد فرض عين علينا، فهل نوفي حقهم ومهما بذلنا لن نوفيهم فسيكافئهم الله تعالى.
يعني أن ما حدث بالأمس يذكرنا بمعركة «بدر» حين هرع صلى الله عليه وسلم يناجي ربه يقول: «اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً»، حتى سقط رداؤه، وخرج وهو يقرأ قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) (الأنفال: 17)، وها هم المجاهدون وهم يرمون الصهاينة يرددون: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى) فنرى العجب العجاب من معية الله لهم! وهذا يدعونا لنستغيث في صلواتنا: «اللهم إن تهلك هذه العصابة في غزة فلن يبقى للأمة مكان عزة»، فلا نرتجل مواقفنا ولا ننسق وراء العواطف الجارفة فروح بلا جسد كإيمان بلا عمل.
لا بد من عمل قوي وعدة روحية ومادية، لنرجع للعلماء المخلصين، ونترك لأصحاب الأرض المرابطين القرار لهم، فلا فتوى من قاعد لمجاهد! ولا يأخذ مواقفنا من المحللين كما قال تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83)، فأهل غزة أدرى بشعابها!
أن نربي أنفسنا وأولادنا في مدرسة رمضان على القوة لنصل لعزة غزة، فلا من فراغ وصلوا لذلك، لكن بما تملكه غزة من شجاعة صُنعت على عين الله وبأسباب وغايات بُذلت في سبيلها أثمان بلا حدود، أثمان لا تستطيع الأمة مجتمعة أن تعوضها إلا أن تسلك سبيل ربها.
فكيف يكون رمضاننا غزة؟ عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: «لا تستطيعونه»، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول: «لا تستطيعونه»، ثم قال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صلاة، ولا صيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله» (رواه مسلم).
وها هي فئة مجاهدة منذ عقود تقف شامخة تدافع عن شرف الأمة، بكل ما يملكون في مثال كأنه الخيال، وها نحن في رمضان نصوم ونصلي ونقوم فهل نكون الصف الثاني للصف الأول المجاهد بغزة، فهل لنا أن تردد قلوبنا نحن الصف الثاني لكم يا أهل غزة في صلاتنا بخشوعها وصيامنا بقلوبنا بزكاتنا بحلالها وبمعتكفنا نرجو رحمة ربنا، نؤدي ونأخذ هذه الأركان بقوة، حتى إذا ما رفعنا الأكف استُجيب لنا!
فأهل غزة بشر مثلنا، لهم مشاعرهم، ولهم ما يعز عليهم فراقه وخسارته كما نحن لنا، فليكن خاص دعائنا لهم في رمضان لهم بالثبات، وأن يؤلف بينهم، فكل شيء يهون إلا الفرقة وتلك التي قسمت ظهرنا وذهبت بريحنا.
فإنّ لم نعش روح الجهاد في أيام هذه فمتى؟ وإلا فهو الخذلان بعينه! وخذلان المسلمُ لأخيه بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما من امرئٍ يخذل امرءًا مسلمًا في موطنٍ يُنتَقَصُ فيه من عِرضِه، ويُنتهَكُ فيه من حُرمتِه، إلا خذله اللهُ تعالى في موطنٍ يحبُّ فيه نُصرتَه».
فالرباط الرباط في رمضان، فإن كان رباطهم الأنفاق فرباطنا الإنفاق، وإن كان دأبهم رباط المُحارب فرباطنا هو القنوت بالمَحَارب وأخذ لكتاب بالله بقوة وصوم قلوب مع الجوارح، وإن كان رباطهم لقاءهم بالعدو وفراره منهم فرباطنا الفرار من معاصينا إلى الله بتوبة صادقة، وإن كان رباطهم ضد حصار العالم أجمع لهم فرباطنا في رمضان هو استمرار مقاطعة وحصار منتجاتهم وشركاتهم.
تلك ذمتهم فينا، يقول صلى الله عليه وسلم: «ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بهَا أَدْنَاهُمْ».
والعدو الصهيوني يضغط على غزة من قطع للغذاء والدواء والماء وهدم كل يمت بصلة بحياة الإنسان، أملاً له أن تتأثر علاقة الشعب بالمقاومة، لكن هيهات هيهات! فالله معهم ولن يترهم أعمالهم، والمقاومة ثابتة على مبادئها وأهدافها، ويساندهم ظهير شعبي محتسب صابر.
كم كانت الأمة عطشى تبحث عن بوصلة تقتدي بها لتروي عطشها بمشاهد عملية، وأن ما كنا نقرأه لم يكن قصصاً خيالية، بل واقع نراه في غزة العزة! النصر قادم، إنه الاختيار والاختبار، اختيروا واصطُفوا ونحن نُختبر فيهم! فهل نخسر شرف مشاركتهم في الأجر؟!
فليكن رمضاننا غزة إن في ذلك لعبرة وعِزة.