العدل قيمة سامية وخلق رفيع لا تستقيم الحياة في كل جوانبها إلا به، وهو أساس مهم لتكوين دولة مستقرة ومجتمع متوازن وأسرة سوية.
وتحقيق العدل وضبط موازينه ليس نافلة، بل هو فرض في ديننا الحنيف الذي هو امتداد لرسالات الأنبياء عليهم السلام.
وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو للعدل وتأمر بالقسط بين الناس وتنهى عن الجور والحيف والميل، يقول تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى) (النحل: 90)، ويقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) (النساء: 135).
وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل أخلاق القرآن في سيرته العطرة حتى وصفته أمنا عائشة رضي الله عنها بقولها: «كان خلقه القرآن»، وكان يدعو لترسيخ العدل ورفض الظلم ويحقق ذلك في حياته الأسرية وفي علاقاته مع أصحابه، بل وحتى مع أعدائه؛ ليكون نموذجاً فريداً لتطبيق معالم العدل ومنارة لرفض الظلم والعدوان.
ولعلي في هذه المساحة أقدم لكم وقفات من عدله صلى الله عليه وسلم:
– كان النبي صلى الله عليه وسلم نقي السريرة عطر السيرة منذ بدايات نشأته، فلم يتلوث بأخلاق الجاهلية الفاسدة، بل كان مثالاً للرفعة والسمو بين قومه حتى لقبوه بالصادق الأمين، وهذان الخلقان الرفيعان (الصدق والأمانة) هما جماع كل الأخلاق الفاضلة، فوق أنهما في بعض تطبيقاتهما يعكسان جوانب من خلق العدل، إذ قول الحق والصدق وأداء الأمانات إلا أهلها ما هو إلا عدل في التعامل مع الناس ووفاء بحقوقهم.
– في العشرينيات من عمره شهد نبينا صلى الله عليه وسلم مع نخبة من سادات قريش حلف الفضول في دار ابن جدعان، وهو حلف للدفاع عن المستضعفين ومناصرة المظلومين بغض النظر عن انتمائهم القبلي أو مركزهم الاجتماعي، والنبي صلى الله عليه وسلم شهده وأشاد به بعد بعثته قائلاً: «لو دعيت له في الإسلام لأجبت».
– وقبل بعثته صلى الله عليه وسلم بـ5 أعوام قررت قريش إعادة بناء الكعبة المشرفة وتعاونوا في بنائها، وعندما أرادوا وضع الحجر الأسود اختصموا فيمن سينال شرف وضعه في مكانه حتى كادوا أن يقتتلوا، ثم اتفقوا على أن يحكّموا أول شخص يدخل عليهم، فكان أول الداخلين سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: رضينا بالصادق الأمين، فكان حكمه مثالاً لحكمته وعدله، فهو لم يمل إلى قومه بني هاشم مثلاً ويجعل هذا الشرف لهم، إنما أخذ رداء ووضع فيه الحجر الأسود، ثم أمر أن يمسك كل فرد من قبيله بجزء من هذا الرداء ووضع الحجر في مكانه بيده فنالوا جميعاً الشرف وحقق العدل بينهم.
وبعد بعثته فإن المواقف كثيرة، منها:
– على مستوى أسرته كان صلى الله عليه وسلم يعدل بين نسائه ويساوي بينهن في النفقة والمبيت، وكان إذا سافر أقرع بين نسائه، كما حدثنا أمنا عايشة رضي الله عنها حين قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها» (رواه البخاري، ومسلم).
– كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث الصحابة على العدل بين أولادهم ويرفض أي جور في التعامل معهم، فعن النعمان بن بشير أن أباه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكل ولدك نحلته هذا؟»، قال: لا، فقال: «الله فأرجعه»، وفي رواية أنه قال له: «فلا تشهدني على جور».
ومن أسس العدالة المساواة في تطبيق الأحكام والحدود متى وجبت على مستحقيها دون النظر إلى نسبهم ومكانتهم الاجتماعية، وهذا ما يقرره الإسلام وطبقه رسولنا صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها: أن قريشاً أهمتهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد؛ حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتشفع في حد من حدود الله؟»، ثم قام فاختطب، ثم قال: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يردها»، ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطت يدها.
وعن جابر بن عبدالله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: «إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا، ربا عباس بن عبدالمطلب، فإنه موضوع كله»، ففي هذا الموقف بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بأقرب الناس إليه ليبين أن أحكام الله لا تحابي أحداً.
ولا شك أن من العدل أداء الأمانات إلى أهلها وإعطاء الناس حقوقهم دون بخس لها، وها هو موقف عظيم لصاحب أعطر وأعظم سيرة في التاريخ، ففي فتح مكة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة من عثمان بن طلحة ودخل الكعبة وكسر ما بها من أصنام وتماثيل ثم جلس بعد ذلك في المسجد، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين عثمان بن طلحة؟»، فدعي له فقال: «هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم وفاء وبر»، وفي رواية أنه قال له: «يا عثمان هو فيكم إلى يوم القيامة لا يغلبه عنكم إلا ظالم»، وفي هذه الحادثة نزل قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النساء: 58).