(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23).
وترجل الفارس المقدام عن صهوة جواده بعد أن أدى الأمانة وبلغ الرسالة وجاهد في سبيل الله حق جهاده، قالها ومات عليها: «لن نعترف بإسرائيل»، صدق الله فصدقه الله، إنها حسن الخاتمة التي يمنحها الله لعباده المؤمنين الصادقين المخلصين، فكانت الجائزة الكبرى لرجل طالما سخر حياته وجهده ووقته لخدمة دينه وعدالة قضيته.
إسماعيل هنية الزعيم السياسي المخضرم وقائد حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، المولود في مخيم الشاطئ للاجئين في غزة 1962م، الذي ينحدر من أسرة فلسطينية لاجئة، هاجرت قسراً من قرية جورة عسقلان، خلال أحداث النكبة عام 1948م، وهو أب لـ13 من الأبناء، اغتال الجيش الصهيوني مؤخراً 3 منهم في أبريل 2024م في مخيم الشاطئ خلال حرب الإبادة الدائرة،
ومنذ عام 2019م يقيم في قطر ويمارس نشاطه السياسي من هناك، وخلال الحرب الصهيونية الدائرة على غزة، عمل كمفاوض في محادثات وقف إطلاق النار وكحلقة وصل مع الوسطاء في قطر ومصر ومع إيران الحليف الرئيس لحركته.
«هذه الدماء لن تزيدنا إلا ثباتاً»، عبارة قالها هنية، في أبريل الماضي، حين أبلغوه بأن الجيش الصهيوني قتل 3 من أبنائه و4 من أحفاده بقصف سيارة كانت تقلهم في قطاع غزة، وهو يتحدث عن مواجهة الحرب الصهيونية على غزة، ولم يكن يعلم أنه سيلحق بأبنائه وأحفاده بعد مرور 3 شهور لكن ليس في غزة مثلهم، وليس في قطر حيث كان يقيم، وإنما في إيران، حيث كان يشارك في مراسم ترسيم الرئيس الإيراني الجديد مسعود بيزشكيان في العاصمة طهران.
لقد اغتالت دولة الكيان اليوم رجلاً من رجالات فلسطين كما اغتالت من قبله الشيخ أحمد ياسين، وعبد العزيز الرنتيسي، وسعيد صيام، وإسماعيل أبو شنب، وإبراهيم المقادمة، وصلاح شحادة، وصالح العاروري.. وغيرهم من قيادة الحركة وزعمائها فهل توقفت الحركة؟ وهل انقطع نبضها؟ وهل عجزت وعقمت أن تنجب غيرهم؟
إنها الحركة التي ولدت من رحم المعاناة وترعرع رجالها من خلف أسلاك القضبان، ووطأة السجن والسجان، الذين تجرعوا مرارة الحرمان والفقد، وعاشوا حياة التشتت والتهجير، وشهدوا على إجرام الصهاينة بحق شعبهم وأمتهم، الذين أخذوا على عاتقهم قيادة السفينة للرسو بها إلى بر الأمان مهما كلفهم ذلك من دماء وأشلاء، مؤمنين بعقيدتهم، مقتنعين بفكرتهم، مصرين على أن «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، فخاضوا طريق الجهاد ودروب المقاومة بكل ما فيها من صعاب وهم يعلمون بأن نهايتها إحدى الحسنيين، ومع ذلك لم يتراجعوا أو يجزعوا، مؤمنين بأن القائد الذي يغيب يأتي خلفه ألف قائد يحمل الراية ويقود الدفة، يقينهم في ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك»، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: «في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس».
نعم لقد قتلت دولة الكيان الصهيوني وبتواطؤ دولي وخنوع عربي القائد هنية، وغيبت رجلاً لن ينساه التاريخ، قتلت روحه ولكنها لن تدرك بأن فكره لن يموت، وبأن غرسة لن ينقطع وسيبقى نبراساً يتغنى به الأجيال جيلاً بعد جيل، وسيذكر التاريخ رجلاً كتب بدمه وأشلائه حكاية شعب فلسطين، ورسم لهم خريطة التحرير، وأنار لهم نبراس الانطلاق، وأوقد لهم جذوة المقاومة التي لن تنتهي بانتهاء حياته.
يودع اليوم الشعب الفلسطيني الحزين وأبناؤه المكلومون الذين يواجهون ظلم العدو وحربه الغاشمة بأجسادهم العارية وسط تخلي القريب من أبناء عروبتهم عنهم في صمت مطبق لم يشهد التاريخ له مثيلاً وكأنهم أموات، يودعون رجلاً من رجالات الحق أفنى حياته رخيصة في سبيل الحق الفلسطيني الساطع، وجعل من جسده الطاهر ممراً نحو التحرير، مدركاً بأن روحه لن تكون الأخيرة على مذبح الحرية، لكنه ظل ثابتاً على الحق لم يتزعزع وهو القدوة الذي أمن بقوة الحق الفلسطيني وعدالة القضية، التي تحتاج إلى الأشلاء والدماء لتكون رخيصة من أجل مهرها.
يا أبا العبد، نم قرير العين، على مثلك تبكي البواكي، ونشهد أنك أكملت المسير وأنجزت العهد والوعد، ولكن هي إرادة الله وسُنته في خلقه، فلقد جاء وقت الراحة بعد العناء، ونسأل الله الثبات والقوة من بعدك، ويعاهدك أبناء شعبك ممن أحبوك بأنهم على العهد باقون ولنهجك مواصلون.