الشيخ محمد متولي الشعراوي ظاهرة غريبة عجيبة في زماننا، وإن كان له أشباه، ونظائر فيما سلف لنا من أيام، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وقد عرف جمهور الناس هذا الشيخ الجليل في أوائل السبعينات الميلادية، وكان صاحب الفضل في التعريف به وتقديمه للناس الأستاذ الفاضل النابه: أحمد فراج، وذلك من خلال برنامجه التلفزيوني المعروف يومئذ: “نور على نور”، وللتاريخ نقول: إن الذي قدم الشيخ الشعراوي للأستاذ أحمد فراج هم طائفة من أدباء السعودية ووجهائها، عرفوا للشيخ قدره وأنزلوه منزلاً كريماً أيام تدريسه بكلية الشريعة بمكة المكرمة، وللشيخ هناك أصداء عالية الرنين.
وقد بَهر الشيخ الشعراوي آنذاك أسماع الناس وأبصارهم بثلاث حلقات تلفزيونية حول الإسراء والمعراج، والقضاء والقدر، وحديث هند بن أبي هالة في صفة خلق رسول الله. ويومها أدرك الناس – كل الناس – أنهم أمام صوت جديد يدعو إلى الله على بصيرة، بأسلوب مباين لكل ما ألفه الناس من أساليب الدعوة والتوجيه، وأنماط الوعظ والإرشاد، وإنما كان ذلك لأن الشيخ سلك في وعظه درباً غير مطروق، وورد ماء مهجوراً، وانتجع كلأً غير مرعي.
تكررت لقاءات الشيخ بالناس في البرنامج التلفزيوني المذكور، على فترات متباعدة حول بعض القضايا التي يسأل عنها الشيخ فيجيب، إلى أن استقر أمره على هذا اللقاء الأسبوع: تفسير القرآن العظيم.
وفي هذا اللقاء، ويوماً إثر يوم اتضح منهج الشيخ، وتحدَّدت ملامحه ويهمني في هذا المقام الكشف عن هذا المنهج، وإقامة حدوده ومعالمه، وتلمُّس أسبابه وبواعثه؛ فإن الشيخ يمثل عندي أنموذجاً ينبغي أن نجلوه للناس، بعد أن نَدل على جذوره وأصوله، وإن في ذلك كله بعثاً لتاريخ عزيز غاب عنا، أو أُريد له أن يغيب .
وإذا كان لكل عالم أو مفكر مِفتاح، فإن مفتاح شخصية هذا الشيخ هو “اللغة”، واللغة هي الباب الأول في ثقافات الأمم، وإهمالُها أو التفريط فيها، أو السخرية منها هدم لتاريخ الأمم، ومحو لها من الوجود.
العناية باللغة
وعناية الشيخ باللغة تتجلى في مستوياتها الأربعة: أصواتاً وصرفاً ونحواً ودلالة. وفي طريق هذه المستويات الأربعة صال الشيخ وجال، ومما يُحسب في موازينه ويُسجل له: هذه الجسارة والجرأة في معالجة تلك القضايا وجمهوره الأعظم من عامة الناس، ولكن الشيخ يرى أن هذا ضروري لتفسير كلام الله والكشف عن مراده.
وقد استطاع الشيخ على هذا المدى الطويل أن يأخذ العامة وأوساط الناس إلى قضايا التذوق والبلاغة واللغة والأدب، وخاض بهم لجج هذه العلوم، واستكثر من شواهد الشعر والأمثال وكلام الفصحاء.
وأحب أن أسجل ها هنا أن عوام الناس يستجيبون لذلك ويستمتعون به وإن كانوا لا يستطيعون التعبير عنه، فيجب أن نحسن الظن بهم؛ فإن لبعضهم ذوقاً قد يجفو عنه بعض الخاصة، ومن غريب ما كنت ألاحظ في أحيائنا الشعبية أن خطيب الجمعة كان إذا اندفع في الكلام الخفيف العامّي على المنبر ضاق به الناس وخرجوا ساخطين يقولون : “إيه الهيافه دي؟ يا عم سيبك منه دا بيتكلم زيِّنا”
إن الشيخ الشعراوي قد نجح فيما عجز عنه غيره، فإننا على كثرة ما كتبنا عن الإعجاز القرآني وعبقرية اللغة العربية لم نستطع أن ننزل بهذه القضايا إلى عامة الناس، وظلت هذه القضايا دائرة بيننا يدخل اللاحق على السابق، وكأننا نُحدّث بعضنا بعضاً.
وبَدءة ذي بَدء، فإن الشيخ يصرح بضرورة استقبال القرآن بملكة اللغة، ليُخرج المستشرقين وأمثالهم من أعاجم العرب الذين كتبوا في الدراسات القرآنية وهم بمعزل عن فقه اللغة، ثم يقول: إن هؤلاء أخذوا اللغة صناعة، ولم يأخذوها ملكة .
وما من آية من كلام ربنا عز وجل يعرض لها الشيخ بتفسير وبيان إلا وأفاض في قضايا اللغة، بادئاً بتأصيل الكلمة صرفاً واشتقاقاً، على المنهج الذي أصَّله ابن فارس في “مقاييس اللغة”، وابن جني في “الخصائص” بالقدر الذي تُطيقه العامة وتدركه الخاصة، وقد نجح في ذلك نجاحاً ظاهراً.
وعلى سبيل المثال فحين عرض لتفسير قول الله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمُ﴾ [الإسراء: ٦٣]، ذكر أن القفو اتباع شيء لشيء، وقال: إن من ذلك “القفا” هذا المعروف، لأنه يقفو الوجه، أي يتبعه، وقافية البيت في الشعر؛ لأنها تقفو سائر الكلام أي تتبعه.
ويقف الشيخ كثيراً عند معاني الحروف وأثرها في الدلالة، ووضع بعضها مكان بعض، كقوله تعالى : (أَرَضِيتُم بِالْحَيَوةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَة) [التوبة: ۳۸]، فإن معنى “من” ها هنا معنى “بدل”، وقوله تعالى : ( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ) [الزلزلة 5] ، فتعدى الفعل هنا باللام مع أنه جاء مُعدَّى بإلي في آيات كثيرة، كقوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النحل) [النحل: ٦٨)، وقوله : ( وأوحينا إلى أم موسى أن أَرْضِعيه ) [القصص : ٧]، وقوله تعالى : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظلمهِمْ ) [الرعد ٦]، ولم يقل مع ظلمهم. و”علم معاني الحروف” علم ضخم من علوم اللغة والمؤلفات فيه كثيرة، والعناية به واجبة، والشيخ دائم الحديث فيه.
وللشيخ احتفال زائد بالفروق اللغوية، في الأبنية: كعالم وعليم، وشاكر وشكور، وهو الفرق بين اسم الفاعل، وأمثلة المبالغة المأخوذة منه، وكعدل وعادل وهدْي وهادٍ، وهو الفرق بين الوصف بالمصدر والوصف باسم الفاعل، ثم الفروق فيما يبدو مترادفاً من اللغة كالفرق بين الشك والريب، والحزن والبث، والرجاء والتمني، والحسد والغبطة، وهو باب معروف من أبواب اللغة، وممن ألَّف فيه أبو هلال العسكري. ويفرق الشيخ كذلك في جموع التكسير بين العباد والعبيد.
علم الغريب
وإذا كنت لا أستطيع أن أُلم ها هنا بكل ما قيدته من قضايا اللغة التي يُعنى بها الشيخ ويدير الكلام حولها، فإني لا أستطيع أن أغفل جانباً مهماً جداً من جوانب اللغة، يتعهده الشيخ دائماً ويحرص عليه، وهو “غريب اللغة”، وهو مصطلح يراد به: الكلمات الغامضة القليلة الاستهلاك في كلام الناس، وتأتي غالباً في الكلام العالي الفصيح. وليست الغرابة في اللغة كالغرابة في البلاغة، لأن هذه يراد بها الكلام الحوشي المُستكره، أصواتاً ودلالة. أما الغرابة في اللغة فتقال في مقابل الوضوح وشاهد هذا ما ذكره الخليل بن أحمد في مقدمة كتابه العين، قال: بدأنا في مؤلفنا هذا بالعين وهو أقصى الحروف ونضم إليه ما بعده حتى تستوعب كلام العرب الواضح والغريب، كتاب العين ٦٠/١ (طبعة العراق).
وقد دارت على هذا العلم مؤلفات كثيرة، وبخاصة ما يسمى غريب القرآن وغريب الحديث. وهذا العلم – علم الغريب – مما أهمله الناس في زماننا هذا إهمالاً يوشك أن يكون تاماً، فقد هجره الناس هجراً طويلاً، بل إن بعضهم إذا صادف شيئاً منه في نص قديم غيّره إلى مرادف له مما يَسهل على الناس، كالذي رأيته يوماً عند أحدهم من تغيير “وكان عمر بن الخطاب رجلاً طُوالًا”، يضم الطاء، أي بالغ الطول، غيّره إلى: “رجلاً طويلاً جداً”. وأشد من هذا أن بعضهم ذكر استعمال كلمة “لُغوب” لعدم جريانها على ألسنة الناس هذه الأيام، مع مجيئها في القرآن العزيز! قال تعالى: في (وما مسّنا من لغوب) [ق: ۳۸].
وهكذا ينكر كثير من الكُتّاب الآن ألفاظاً وتراكيب كثيرة ضاربة في الفصاحة بعروقها. ولست تجد هذه الألفاظ والتراكيب في النصوص الأدبية فقط، من شعر ونثر، بل إنك واجدها في علم الأنساب والتاريخ والجغرافيا، وكتب الفلك والطب والفلاحة والزراعة، وسائر ما كتب الأوائل. وينادي بعضهم الآن بهجر هذه اللغة القديمة وتبني لغة واقعية كالتي تُقرأ في الصحافة ووسائل الإعلام، حتى لا يشعر التلميذ بفجوة بين الذي يقرأه في النصوص القديمة، وبين ما يسمعه في واقع الحياة من تلك اللغة التي تلبي احتياجاته.
وحجة هؤلاء أن لكل عصر لغته وأعرافه وهي حجة داحضة [تنبيه: حجة داحضة هذه من التعبيرات القرآنية، فلا بأس عليّ في استعمالها إن شاء الله ]، ومردود عليها من أكثر من وجه. لكني أسأل: إذا نحن ربينا أبناءنا على هذا المنهج المقترح، وسلخ التلميذ من عمره ما سلخ في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، ثم دخل كلية جامعية تُعنى باللغة والأدب، مثل دار العلوم أو الآداب، فماذا هو صانع مع مناهج هذه الكليات التي تدور حول قضايا اللغة قديماً وحديثاً؟ نعم ماذا يصنع ذلك التلميذ مع مناهج هذه الكليات، وقد دخلها مُفرَّغاً خالي الوفاض ؟ إلا إذا غيرنا مناهج اللغة أيضاً في هذه الكليات حتى نُضيّق الثغرة بين اللغة العربية كما تقدمها النصوص وبين اللغة العربية في واقع الحياة – كما جاء في أخبار الأدب – العدد التاسع ١٢ سبتمبر ۱۹۹۳ ص ٢٦.
إن للغة جانباً تاريخياً يجب الحرص عليه ومعرفته، ثم إن اللغة ممتدة مع أصحابها لا تموت ولا تفنى، وليست اللغة للتفاهم وقضاء المصالح فقط، وإلا لكان القَدْر اللازم لنا منها محدوداً جداً، ولكان الذي يعرف خمسمائة كلمة إنجليزية تلبّي احتياجاته في متاجر لندن وشوارعها عالماً باللغة الإنجليزية.
ولقد كان غريب اللغة الذي هو الفصيح الرفيع مألوفاً للناس إلى عهد قريب في خطبة الجمعة، وفي الكتاب المدرسي والكتاب الجامعي، ثم على ألسنة المحاضرين وأقلام الكاتبين، ثم هجره الناس هجراً غير جميل، ثم جاء الشيخ الشعراوي فردنا إليه رداً جميلاً.
________________________________
المصدر: مجلة الهلال، 1994م.