إن القليل منا فقط في الواقع من يفهم كيفية عمل الاقتصاد، كما أن لدينا وجهة نظر مقبولة بصفة عامة، من النوع الذي تلخصه الأقوال المأثورة مثل: «الثري يزداد ثراء والفقير يزداد فقراً»، و«الأموال تجني أموالاً أكثر»، و«أفضل الأشياء في الحياة يحصل عليها بدون مقابل»،
إن هناك جانباً من الحقيقة في هذه الأقوال إذا ما نظرنا إلى أنماط الدخل وعوائد الاستثمار وموضوعات معينة متعلقة بمستوى المعيشة، وعلى الرغم من صدق هذه الأقوال المأثورة، فإنها لا تقدم معلومات كافية أو بصيرة أو إلهاماً لإرشادنا في حياتنا الاقتصادية، بل هي بدائل لفهم علم الاقتصاد وهو موضوع يجده الكثيرون غامضاً.
ومع ذلك، فإن علم الاقتصاد يمس جوانب حياتنا كلها؛ إذ إن وظائفنا ومعايشنا وقراراتنا الخاصة بالشراء والاستثمار واختيارنا أين نعيش وفي أي مسكن نعيش، كل ذلك يعتمد إلى حد ما على علم الاقتصاد، وبذلك يمثل الاقتصاد -النظام الذي نستخدمه بصفتنا مجتمعاً لتحديد ماذا نفعل ومن يحصل على ماذا- قوة فعالة في حياتنا.
ورغم ذلك، فإن هناك أسباباً عديدة تجعل علم الاقتصاد علماً غامضاً، إلا أنني أظن أن السبب الأساس هو أن معظم الناس يرون الموضوع بأكمله معقداً جداً، ويرجع ذلك جزئياً إلى اللغة، ومثله مثل الرعاية الصحية وإصلاح السيارات والمجالات الأخرى، فإن لعلم الاقتصاد كلماته الخاصة التي يسمي بها الأشياء، ومع أن الكلمات التي تصف النشاط الاقتصادي ربما تكون غير مألوفة، فإنها لا تزال كلمات مجردة، ولجميعها معانٍ.
ثم إن الكثيرين يعتقدون أيضاً أن علم الاقتصاد مليء بالرياضيات، ومع إمكانية وجود الكثير من الأرقام في علم الاقتصاد، فإنه يمكن شرح أكثر الجوانب أهمية بلغة يسيرة، وباستثناء ما يحدث في جوانب متخصصة مثل التنبؤ الاقتصادي، فإن الحساب الذي يظهر بالفعل في الاقتصاد على نحو غير متوقع يعتبر أساسياً للغاية.
إن علم الاقتصاد علم اجتماعي، وكغيره من العلوم الاجتماعية مثل علم النفس، فإنه يفسر السلوك الإنساني؛ سلوك الناس في الأسواق من حيث: لماذا يشترون ما يشترونه؟ وكيف يحدد أصحاب المتاجر أسعار السلع؟ ولماذا لا يحصل الجميع على ما يريدون؟ كيف يحدد أصحاب الأعمال ما ينتجونه وكم يدفعون للموظفين؟ ما الذي يمكن أن تفعله الحكومة -إن كان بوسعها أن تفعل شيئاً- لمساعدة الفقراء في أن يصبحوا أيسر حالاً؟ يجيب علم الاقتصاد عن هذه الأسئلة، ويجيب عن معظمها دون الاستعانة بالرياضيات.
ولذا، تتمثل أهمية معرفة علم الاقتصاد في الآتي:
1- المساعدة في إدارة ميزانية الأسرة:
حيث يؤثر علم الاقتصاد في طريقة تنظيم ميزانية الأسرة، ويُوجّه أفرادها نحو خيارات معينة للأخذ بها أو تغييرها، مثل طبيعة العمل والدخل الناتج عنه، ومقدار المال المسموح إنفاقه على الترفيه، ومقدار المال الذي يجب ادخاره.
كما أنّ كل شيء يشترى بدءًا من زجاجة الحليب إلى السيارة الجديدة يتعلق بالاقتصاد، إذ تضاف كل هذه المشتريات إلى قائمة الميزانية التي تحدد مقدار الإنفاق الكلي الذي يمكن توفيره لشراء السلع والخدمات وغيرها، وكلما زاد الدخل زاد مقدار المال الذي يمكن إنفاقه، الذي يطلق عليه مصطلح «القوة الشرائية».
2- تعليم أفراد المجتمع كيفية الاستخدام الأمثل للموارد المحدودة:
إذ يساعد علم الاقتصاد على تبنّي سلوك عقلاني في طريقة استخدام الموارد واستغلالها، عن طريق تعليم كل فرد كيفية الاستخدام الأمثل للموارد المحدودة، على سبيل المثال؛ عند إنفاق مبلغ من المال لشراء منتج معين، فإنّ الفرد يحلل هذا المنتج، ويقدّر القيمة الدقيقة له، لكي يعرف ما إذا كان يستحق إنفاق هذا القدر من المال أم لا، وهذا يعني أنّ علم الاقتصاد يساعد على إرشاد الأفراد لاتخاذ القرار الصحيح فيما يتعلق بشراء الموارد وندرتها واستخدام البديل لها في حال لم تكن مناسبة، أو كان هناك بديل أفضل.
3- المساعدة في اتخاذ قرارات الاستثمار:
لذا، يحاول كل فرد أن يستثمر فيما يملكه للحصول على أفضل عوائد في المستقبل، ويُمكن أن تكون بعض هذه الاستثمارات مربحة وبعضها الآخر يُسبب خسارة، وما سيساعده على التقييم والتقليل من فرص حدوث خسارات فادحة هو دراسة علم الاقتصاد.
ووفقًا لعلم الاقتصاد، يُمكن للفرد تقييم الخيارات المتاحة أمامه للاستثمار سواء أكان عن طريق شراء الذهب أو الأراضي وغيرها، ومعرفة الأخطار التي يُمكن أن تنطوي عليها كل من هذه الخيارات، ثمّ اختيار الأنسب له من بينها.
4- تعليم الناس كيفية التنبؤ والتخطيط المالي المستقبلي:
لا شك أنّه ما من أحد يستطيع التنبؤ بالمستقبل بصورة دقيقة، إلا أنّ توقع ما قد يحدث عن طريق دراسة الاحتمالات، يجعل كل فرد مستعدًا للأزمات الاستعداد الأمثل، ويمكن التوقع بما قد يحدث في المستقبل بإذن الله من خلال دراسة علم الاقتصاد، إنّ علماء الاقتصاد قادرون بعون الله على التوقع بحدوث الأزمات المستقبلية مثل مشكلة التضخم، كما أنّهم يُقدّمون النصائح تبعًا لتوقعاتهم تلك، فيُخبرون إذا ما كان من المناسب المشاركة حاليًا في أسواق المال والأسهم أم الانتظار قليلًا وما شابه ذلك.
5- تثقيف المجتمع بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية اليومية:
إذ يساعد علم الاقتصاد أفراد المجتمع على فهم القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تحدث حولهم؛ ما يساعدهم على اتخاذ قرارات اقتصادية صحيحة، فمثلًا عدم فهم أي فرد لمفاهيم مثل التضخم، تجعله يتخذ قرارات خاطئة كإنفاق المال أو استثماره في جهة واحدة فقط، وهذا خاطئ.
بالمقابل، فإنّ فهم التضخم بشكل صحيح سيدفع الفرد لاتخاذ الاحتياطات اللازمة والتدابير الدقيقة التي تحمي أمواله من الضياع.
لكن ومع الأسف، أحياناً يكون علماء الاقتصاد هم السبب في جعل علم الاقتصاد معقداً، وعلماء الاقتصاد هم الخبراء المتعلمون تعليماً راقياً الذين يدرسون الاقتصاد بعمق ويجرون الأبحاث ويصوغون النظريات ويدرِّسون الاقتصاد في الكليات والجامعات، علاوة على ذلك يسدي الاقتصاديون النصائح إلى قادة الأعمال والقادة السياسيين بخصوص الاقتصاد، ومن ثم فهم يؤدون دوراً مهماً في المجتمع، إلا أنهم مثل جميع الخبراء يستطيعون التعامل مع تعقيدات تخصصهم لأنهم هم من يخلقونها.
لنواجه هذه الحقيقة: إن كان هناك مبدأ أساس يوجه حياتنا على الأرض، فهو مبدأ الندرة النسبية وليست الندرة المطلقة كما زعموا، فليس هناك ما يكفي الجميع من المنازل التي تطل على البحر، والسيارات الفارهة! وإذا ما تناولنا الأمر بجدية أكثر، فليس هناك ما يكفي من الطعام أو الملابس أو الرعاية الصحية لكل من يحتاجها لأسباب يعلمها الجميع.
لذا، نشأ علم الاقتصاد بكامله -وكل النشاط الاقتصادي- من ندرة السلع والخدمات مقارنة باحتياجات الإنسان ورغباته، وإذا لم يكن هناك قدر كاف من شيء ما لكل من يريده أو يحتاجه، فإن المجتمع يواجه مشكلة خطيرة: كيف نحدد من يحصل على هذا الشيء، ومن يستغني عنه؟
كما يتعامل علم الاقتصاد مع موضوعات أساسية كثيراً ما تكون قضايا حياة أو موت، وهذا سر أهميته، وتكمن صعوبة هذا العلم في غموضه؛ فنحن لا نعلم متى سيحدث النمو أو الركود الاقتصادي التالي، ولا نعرف أيضاً أي التقنيات الحديثة ينبغي تشجيعها وأيها لن يحقق نجاحاً، والمؤسف أننا لا ندري كيف نتغلب على الفقر والجوع والجريمة والشرور الأخرى المتأصلة في الواقع الاقتصادي، ومع ذلك فعلم الاقتصاد هو العلم الاجتماعي الذي يهتم اهتماماً خاصاً بهذه الأمور، وهو العلم الذي به من المؤهلات ما يساعدنا في التعامل معها.
لذا، يقول ألفريد مارشال: إن الاقتصاد مهنة ينبغي أن تمزج بين العلم السديد والإخلاص للبشر، وفيما كان الناس في العصور الوسطى يرون أن هناك مهناً عظيمة -وهي الطب الهادف لتحقيق الصحة البدنية، والقانون الهادف لتحقيق الصحة السياسية- كان مارشال يأمل في أن يصبح الاقتصاد المهنة النبيلة الثالثة التي تحقق مستوى أفضل من الصحة المالية، ليس للأغنياء فقط ولكن للجميع، لقد حاول مارشال ببسالة أن يتوسط بين اتجاهين مؤثرين متعارضين؛ اتجاه نحو اقتصاد رياضي صرف دون أي تطبيق عملي، واتجاه يميل إلى التطرف العاطفي التام دون تفكير نظري دقيق، إن المنهج الذي حارب مارشال من أجل تأسيسه في كامبريدج جمع بين أشد العقول علمية وأشدها عاطفية.
إن الاقتصاد من أكثر العلوم التي يبتعد الناس عن الخوض فيها، أو القراءة عنها؛ نظرًا لشعورهم بكونه علمًا معقدًا لا يمكن فهمه إلا عن طريق دارسيه؛ لذا فهم يختصرون الأمر، ويبتعدون عن القراءات الاقتصادية تمامًا، ولا ننكر أن هذا النفور له ما يبرره؛ حيث إن كثيرًا من الكتب الاقتصادية معقدة وموجهة للمتخصصين، دون أخذ الأفراد العاديين -ممن يريدون تنمية ثقافتهم الاقتصادية- في الاعتبار، وحتى الكتب التي حاول كُتَّابها جعلها مفهومة لغير المتخصصين، فقد خرج كثير منها في شكل نظري بحت، يصيب القارئ بالملل، ولكن لحسن الحظ، فإن الصورة ليست داكنة بالكامل؛ فهناك العديد من الكتب الاقتصادية التي نجح كُتَّابها في جعلها ميسرة وسهلة، وأيضًا مثيرة ومشوقة.
وللأسف، فإن من أبرز أسباب النفرة من علم الاقتصاد واهتزاز الثقة في علماء وخبراء الاقتصاد وأساليبهم:
1- أن الاقتصاد علم غير واضح المعالم ومعقد.
2- أن الاقتصاد علم اجتماعي يقوم على مبدأ أن الموارد نادرة وشحيحة والحاجات البشرية متعددة ولا نهائية.
3- اعتماد علم الاقتصاد على كثير من الافتراضات ذات التفكير المجرد والمحايد والمنطقي.
4- انتهاج علم الاقتصاد الملاحظة والاستنتاج والتحليل العلمي لتفسير النماذج المجردة لعدم إمكانية القيام بتجارب عملية.
5- تعدد أساليب الاقتصاديين في تقديم أفكارهم بالمصطلحات والمعادلات الرياضية والبيانية والرسومات.
6- ضعف قدرة خبراء الاقتصاد على إقناع غير المتخصصين بأسباب اختلاف النتائج عن التوقعات.
ومن ثم، فإن الاقتصاديين خبراء وعلماء وأساتذة يشعرون بأنهم يهاجمون ظلماً؛ رغم أنهم عادة ليسوا المتسببين في الأنباء السيئة، بل هم من ينقلوها فحسب، والرسالة يسيرة: على البشر أن يقدموا على خيارات صعبة، فالجنس البشري لا يعيش في جنة، والعالم لا يمتلئ بأنهار اللبن والعسل، وعلينا أن نختار بين الهواء الأنقى أو السيارات الأسرع، بين المنازل الأكبر أو الحدائق الأكبر، بين المزيد من العمل أو المزيد من اللهو.
ولقد كرس عدد من الكتَّاب الساخرين وقتهم لمهاجمتهم؛ أمثال جورج برنارد شو، وتوماس كارلايل، وفي الواقع بدأ موسم الهجوم على المفكرين الاقتصاديين منذ أن أطلق كارلايل على الاقتصاد اسم «العلم الكئيب»!
إن المفكرين الاقتصاديين لا يقولون لنا: إن أيًّا من هذه الأشياء سيئ، لكنهم يقولون فقط: إنه ليس بوسعنا أن نملكها كلها في الوقت نفسه، إن علم الاقتصاد معني بدراسة الخيارات؛ فهو لا يخبرنا يما يجب علينا اختياره، بل يساعدنا فقط على فهم تداعيات اختياراتنا.
بالطبع، لم يرض المفكرون الاقتصاديون الأوائل بممارسة دور ناقلي الأخبار وحسب، وعلى الرغم من أنهم نالوا ألقاباً ساخرة وغير مهذبة -مثل سميث الأخرق، ومل المتذاكي، وكينز الشهواني، وما إلى ذلك- فلا يمكن أن نستخف بهم بسبب دوافعهم.
ومن قبيل المفارقة أن المفكرين الاقتصاديين ينالون بالمثل في أيَّامنا هذه الكثير من الانتقادات اللاذعة؛ ذلك لأنه -كما لاحظ كينز- بدأ الكثير منهم كفاعلي خير يبحثون عن وسائل لجعل العالم أفضل.
________________________
للتواصل: zrommany3@gmail.com.