مات الحبيب المصطفى.. لكنه حيٌّ في قلوبنا ورسالته وسنته تنير حياتنا
مات الحبيب المصطفى.. لكنه حيٌّ في قلوبنا ورسالته وسنته تنير حياتنا
نزل نعيه قرآناً فتنزلت الآيات تبين أن بلاغه تم وأن دينه قد اكتمل وآن له أن يستريح في جوار ربه عز وجل بعد عناء السنين وشدة الحياة
الرسول”صلى الله عليه وسلم” ولد يوم الإثنين 12 ربيع الأول ومات أيضاً يوم الإثنين 12 ربيع الأول وكان موته أعظم مصيبة تصاب بها الأمة
بعد أن ملأ الأرض نوراًً وإشراقاً، وبعد أن أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، مات الحبيب.
بعد أن أحبه أصحابه حباًًً فاق حب النفس والمال والولد.. حباً ملك عليهم قلوبهم، فلا تتخيل لحظة أن يغيب عنهم.
مات، نعم.. مات سيد الخلق، وسيد العِبَاد والعُبّاد.. مات خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وحبيب رب العالمين.. القائل له: «إنك ميت وإنهم ميتون».
فكما ولد حبيبنا محمد “صلى الله عليه وسلم” يوم الإثنين، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، مات أيضاًً يوم الإثنين 12 ربيع الأول، وكان موته أعظم مصيبة تصاب بها الأمة وترزأ، ومازالت، لكن عزاءنا قول الله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ “26” وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ “27”)}(الرحمن).
وتسليتنا في مصابه هي انتظار اللقاء على حوضه، والتأهب للشرب من يده الكريمة ومجاورته في الفردوس الأعلى برحمة الله.. يقول أنس بن مالك “رضي الله عنه”: «شهدته يوم دخل المدينة، فما رأيت يوماًًً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله “صلى الله عليه وسلم”، وشهدته يوم موته فما كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله “صلى الله عليه وسلم”» (الوادعي- الصحيح المسند).
مات الحبيب المصطفى.. لكنه حيّ في قلوبنا، ورسالته وسنته تنير حياتنا، والموعد الحوض، واللقاء الأبدي السرمدي معه في جنات النعيم، لمن آمن به واتبع هديه، وسار على نهجه، ونصر دينه ونشر سنته، نرسل إليه سلامنا فيبلغه حيث كنا: «إن لله عز وجل ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام» (رواه أحمد). «ما من أحد يسلم عليّ، إلا ردّ الله علي روحي، حتى أردّ عليه السلام» (صحيح الجامع، حسنه الألباني).
وقد نقل لنا الصحابة رضوان الله عليهم تلك اللحظات الصعبة التي تُجري الدموع من مآقيها، لحظات وداعه لهم قبل موته، إنها لحظات يشتاق فيها المؤمن للقاء نبيه ووداعه وسماع وصاياه، وما أصعب وداع الأحبة، وما أقسى ساعة الفراق.. نتخيل أنفسنا ونحن في هذا الجمع من الصحابة والنبي “صلى الله عليه وسلم” ينظر إلينا ويعهد، يوصي بنا ويوصينا، ويعدنا اللقاء على حوضه ما تمسكنا بهديه ووفينا بعهده.. يا لها من لحظات يود المسلم فيها لو يفتديه بروحه ونفسه وماله حتى يسلم لنا ويظل معنا، لكن الله تعالى هو الذي خلق الموت والحياة، وهو الذي يحيي ويميت، وهو القادر وعلى كل شيء قدير.
ولقد خُيّرَ النبي “صلى الله عليه وسلم” فاختار لقاء ربه.. اختار بعد أن أدى أمانته وبذل جهده وبلغ رسالته، اختار بعد أن رأى ثمرة جهاده ودعوته، وقد دخل الناس في دين الله أفواجاًً، وليس اختيار العاجزين الذين يريدون أن يتخلصوا بالموت مما يصيبهم من بلاء ويظنون أن في موتهم الخلاص! اختار لأن قلبه معلق بالله، ولا مكان للدنيا فيه، فقد عاش من أجل رسالة أتمها وأحسن أداءها، وها هو في طريقه لحسن الجزاء من ربه الكريم عز وجل.. روى أبو سعيد الخدري “رضي الله عنه”: أن رسول الله “صلى الله عليه وسلم” جلس على المنبر فقال: «إن عبداًً خيَّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده». فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ، يخبر رسول الله “صلى الله عليه وسلم” عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فكان رسول الله “صلى الله عليه وسلم” هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به..»(رواه البخاري).
ونزل نعيه قرآناًً، فتنزلت الآيات تبين أنه قد تم بلاغه وكمل دينه، وقد آن له أن يستريح في جوار ربه عز وجل بعد عناء السنين وشدة الحياة وشظف العيش، فليسبح بحمد ربه شكراًً، وليستغفره طمعاً في زيادة المنزلة والرفعة وعلو المكانة والدرجة: { ذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ “1” وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا “2” فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا “3”}(النصر).. عن ابن عباس “رضي الله عنه” قال: لما نزلت «إذا جاء نصر الله والفتح» قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم” «نعيت إليّ نفسي» (رواه أحمد).. وقال أبو هريرة آ”رضي الله عنه”: اجتهد النبي “صلى الله عليه وسلم” بعد نزولها حتى تورمت قدماه، ونحل جسمه، وقل تبسمه، وكثر بكاؤه. وقال عكرمة: لم يكن النبي “صلى الله عليه وسلم” قط أشد اجتهاداًً في أمور الآخرة ما كان منه عند نزولها. وقال قتادة: والله ما عاش بعد ذلك إلا قليلاً(سنتين)، ثم توفي “صلى الله عليه وسلم”.
إلى الرفيق الأعلى
وها هو الحبيب “صلى الله عليه وسلم” يلبي نداء ربه.. يروي لنا الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود “رضي الله عنه” وينقل لنا هذه اللحظات العصيبة فيقول: نعي إلينا حبيبنا ونبينا بأبي هو ونفسي له الفداء قبل موته بست، فلما دنا الفراق جمعنا في بيت أمنا عائشة، فنظر إلينا فدمعت عيناه ثم قال: «مرحباً بكم، وحياكم الله، وحفظكم الله، آواكم الله، ونصركم الله، رفعكم الله، هداكم الله، رزقكم الله، وفقكم الله، سلمكم الله، قبلكم الله، أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم، إني لكم نذير مبين، ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده فإن الله قال لي ولكم: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ “83” }(القصص)، وقال: { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ “60”}(الزمر)، ثم قال: قد دنا الأجل والمنقلب إلى الله وإلى سدرة المنتهى، وإلى جنة المأوى والكأس الأوفى والرفيق الأعلى.. أحسبه قال: فقلنا: يا رسول الله فمن يغسلك إذن؟ قال: رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى. قلنا: ففيم نكفنك؟ قال: في ثيابي هذه إن شئتم أو في حلة يمنية أو في بياض مضر.. قال فقلنا: فمن يصلي عليك منا؟ فبكينا وبكى وقال: مهلاً غفر الله لكم وجازاكم عن نبيكم خيراًً، إذا غسلتموني، ووضعتموني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري فاخرجوا عني ساعة، فإن أول مَن يصلي عليَّ خليلي وجليسي جبريل عليه السلام، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنوده ثم الملائكة صلى الله عليهم بأجمعها، ثم ادخلوا عليَّ فوجاً فوجاً فصلوا عليَّ وسلموا تسليماً، ولا تؤذوني بباكية أحسبه قال: ولا صارخة ولا رانة، وليبدأ بالصلاة عليَّ رجال أهل بيتي ثم أنتم بعد، وأقرئوا أنفسكم مِّني السلام، ومن غاب من إخواني فأقرئوه مني السلام، ومن دخل معكم في دينكم بعدي، فإني أشهدكم أني أقرأ السلام أحسبه قال: عليه وعلى كل من تابعني على ديني من يومي هذا إلى يوم القيامة.. قلنا: يا رسول الله فمن يدخلك قبرك منا؟ قال: رجال أهل بيتي مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم» (الهيثمي- محمع الزوائد).
وتروي أمنا عائشة رضي الله عنها: أغمي على رسول الله “صلى الله عليه وسلم” ورأسه في حجري، فجعلت أمسحه وأدعو له بالشفاء فلما أفاق قال “صلى الله عليه وسلم”: «لا بل أسأل الله الرفيق الأعلى مع جبريل وميكائيل وإسرافيل» (الألباني – السلسلة الصحيحة).
طوبى لكل المؤمنين
نشهد الله عز وجل أننا رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبسيدنا محمد “صلى الله عليه وسلم” نبياً ورسولاًً، ونسأله أن نكون ممن قال فيهم النبي “صلى الله عليه وسلم”: «طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني»(صحيح الجامع).
لقد ودّ الحبيب “صلى الله عليه وسلم” أن يرانا، وقال لأصحابه: «وددت أني قد رأيت إخواننا. قالوا: يا رسول الله: ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي. وإخواني الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض. قالوا: يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيتم لو كان لرجل خيل، غر محجلة، في خيل بهم دهم، ألا يعرف خيله؟. قالوا: بلى. قال: فإنهم يأتون يوم القيامة، غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض»(رواه النسائي).