د. سنان أحمد
شهدت الأحداث الأخيرة في اليمن تداعيات دولية وإقليمية لم تكن في حسابات معظم المحللين السياسيين، وكان من أبرزها التأييد التركي المطلق لهذه العمليات الحربية، والتي وصلت في حدتها إلى مطالبة “أردوغان” وبصراحة بالغة إيران بسحب قواتها من سورية والعراق واليمن! ووضعها في إطار المشكلة القائمة بدون لف ودوران.
فرد عليه “ظريف”، وزير خارجية إيران، يتهم تركيا بالتدخل في شؤون المنطقة، وهذه المشادات بين القوتين الإقليميتين لم تصل لهذه الحدة حتى حول موقفيهما المتنافرين من الثورة السورية، والتي وقفت إيران ضدها بكل قوتها، وتعمل على إجهاضها، بينما اكتفت تركيا بإيواء اللاجئين فقط، لقد كانت السياسة التركية الخارجية تعتمد على المبدأ الذي بشر به “أحمد داود أوغلو” عندما نشر كتابه القيم المعنون “العمق الإستراتيجي وموقع تركيا ودورها في السياسة الدولية”، والذي أسماه “صفر مشكلات”؛ أي أن تركيا يجب أن تعيش بدون مشكلات مع كل جيرانها!
كان حلم “أوغلو” وهو في موقع أكاديمي متقدم وأستاذ في الجامعة له إلمامات متعددة بكل ما يتصل بمفاصل السياسة من تاريخ وجغرافيا واقتصاد واجتماع.. إلخ غير واقعي على الإطلاق.
تدرج “أوغلو” ليشغل منصب وزير خارجية تركيا كما هو معلوم، ثم رئيساً للوزراء ورئيساً لحزب العدالة والتنمية في وقت تفاقمت فيه المشاكلات حول تركيا وفي منطقة الشرق الأوسط بشكل خطير، ولم تؤدِّ فيه تركيا إلا الدور الإنساني في إيواء اللاجئين وتقديم المساعدات الإنسانية، ولم تتجرأ على اتخاذ مواقف كالمواقف الإيرانية في دعمها لحلفائها.
إن الذي دعا “أوغلو” لتخيل هذا المفهوم هو التقدم الاقتصادي الناجح لتركيا، ومحاولة الحفاظ عليه بكل السبل، وإحرازها لمراتب متقدمة في الزراعة والصناعة في سنوات حكم العدالة والتنمية منذ عام 2002م، وأن الحروب لا تجلب إلا الخراب والتأخر؛ لذلك يجب تجنبها بكل السبل، فصارت حركة السياسة التركية تشبه حركة الحاوي الذي يسير على الحبل ويحمل عصا التوازن، والتي يشكل أحد طرفيها المصالح الاقتصادية والطرف الآخر مبادئ حزب العدالة والتنمية في تبني التوجهات الإسلامية المعتدلة، وكلما اختلت حركة التوازن تميل العصا للجانب الاقتصادي، وتترك مبادئ الحزب؛ حيث إن ترك الهاجس العسكري صار مبدأ لا حياد عنه، خصوصاً بعد الاتفاق مع قوات حزب العمال الكردستاني على وقف إطلاق النار.
هذه المواقف ولدت إحباطاً عاماً لدى معظم المناصرين للسياسة التركية مع بدأ عصر “أمريكي – عربي” جديد في الموقف من العربدة الإيرانية في اليمن والعراق وسورية، ولذلك فإن الساسة الأتراك لم يترددوا باللحاق بهذا الركب؛ لأنها إن لم تفعل ذلك ستجد نفسها معزولة عن المحيط العربي، ذي الأغلبية السُّنية الذي تصدره المشهد السعودي في الأيام الأخيرة، وأن مسألة الابتعاد عن كل ما يمت للجوانب العسكرية مسألة غير واقعية في محيط الشرق الأوسط الملتهب، وأن المشكلات العسكرية أمر واقع لا مفر منه.
إن مبدأ “صفر مشكلات” مبدأ خيالي غير واقعي، وإذا تم تبنيه فهو مبدأ طوباوي يقوم على حساب المبادئ، وهذا غير متوقع من الحكومة التركية التي تريد إرجاع الأمجاد العثمانية بشكل عصري، وتزعُّم العالم الإسلامي السُّني، وتركيا كما هو معلوم عنصر فاعل ومهم في حلف شمال الأطلس ولا يستطيع الغرب الاستغناء عنها، وخصوصاً وأنها القوة الثانية في الحلف الذي يعول عليها في مجابهة التمدد الروسي صوب منطقة الشرق الأوسط، حيث لم تستغل تركيا هذا الأمر بجدية بالغة، وظلت تغازل روسيا رغم مواقفها المعادية والصريحة من الثورة السورية من أجل مصالحها الاقتصادية، وكذلك فعلت إلى حد ما مع إيران والصين إلى أن فهمت بعد أحداث اليمن الجارية، إن هذه المواقف لا تعني “صفر مشكلات”، وإنه لا حياد عن المشكلات في بعض الأحيان إذا كان الحق معك، وإذا تمادى من حولك واعتبر هذا الموقف ضعفاً يستغله بشراسة.
إن أمام السياسة التركية فرصة لتغيير مساراتها بعد أحداث اليمن الجارية؛ لتكون أكثر فاعلية وتأثيراً في المحيط العربي السُّني، وهذا ما يبدو في الأفق على أقل تقدير.
وتستطيع تركيا بثقلها التاريخي والاقتصادي والجيوسياسي أن تكون أكثر فاعلية، خصوصاً إذا اكتسبت ثقة السياسة الأمريكية، حيث تستطيع رأب الصدع الواسع الذي حدث بين السعودية وأنظمة الخليج من جهة، وجماعة الإخوان المسلمين التي لا يستهان بثقلها السياسي والعقائدي في العالم الإسلامي عامة، خصوصاً بعد انقلاب التيارات المتشددة المحسوبة زوراً وبهتانا على الإسلام كـ”داعش”، و”القاعدة”.
وإذا أرادت تركيا النجاح في مسعاها؛ فيجب أن تحافظ على طرفي التوازن بين المصالح الاقتصادية والمبادئ حتى لو اضطرت للتدخل العسكري المحدود، كما فعلت عندما نقلت ضريح “سليمان شاه” من داخل الأراضي السورية.
إن من أقرب مواقع الأحداث التي تشعر بالمرارة من تلكؤ السياسة التركية تجاهها هي منطقة الموصل المجاورة لتركيا، والتي تربطها بتركيا أواصر تاريخية عميقة منذ أيام السلاجقة والزنكيين، ولكن بعد الأحداث الأخيرة كان أهل الموصل ينتظرون الكثير من جارتهم القديمة، ولكنهم لم يحصدوا إلا الخيبة والإهمال، فمبدأ “صفر مشكلات” مازال طاغياً على المشهد التركي بما يخص الموصل.