السُّنة في العراق متفرقون وغير موحدين، ليس لديهم رؤية واحدة ولا مشروع حقيقي، ظلوا سنين تحت حكم «البعث»؛ فضاعت هويتهم وقدرتهم على التفكير وإرادتهم على التوحد، لم يكونوا على رؤية واحدة لمشروع متفاهم عليه أمام التحديات والمتغيرات التي حدثت بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003م، لم تكن لديهم قيادة قادرة على استيعابهم وحشدهم أمام المتغيرات والتحولات التي نشأت أمام الدولة العراقية تحت الاحتلال؛ فانقسموا إلى ثلاث طبقات:
– طبقة حاولت أن تفهم الموقف بأن الأمريكيين هم الأقوى ويفرضون حلاً عسكرياً وسياسياً، ولديهم حلفاء محليون وقادمون من إيران، ولديهم حليف كردي قوي، ولديهم تجربة في الحكم الذاتي وإدارة الحرب؛ ومن ثم بادرت هذه الطبقة لمحاولة الانسجام مع المتغيرات الدستورية والسياسية في وضع دستور جديد، ولكن هذه الطبقة لم تجد في بادئ الأمر التأييد الشعبي بين السُّنة الذين كانوا أغلبهم يعارضون الاحتلال الأمريكي، ويعتقدون سهولة مواجهته، وأن الشيعة ما هم إلا قادمون مع المحتل ويسهل معالجة أمرهم، وقد حاولت هذه الطبقة السياسية إقناع القوى الشعبية السُّنية بجدوى المشاركة السياسية، ولكنها لم تفلح؛ مما سبب في إيجاد دستور غير عادل للسُّنة، وتم تفريغ المؤسسات المدنية والوزارات من السُّنة لصالح الشيعة والأكراد، وعندما رجع السُّنة للعملية السياسية بعدها كانوا متأخرين، إذ فُرض عليهم النظام الانتخابي غير العادل، ومكَّن ذلك للشيعة والأكراد سياسياً وعملياً، وتم تشكيل الجيش العراقي من هاتين الفئتين على حساب السُّنة الذين خسروا مواقعهم في الدولة الجديدة بعد الاحتلال الأمريكي.
– الطبقة الثانية: وهي طبقة علمائية وعسكرية، رأت في وجود المحتل سبباً لمأساة العراق، فكانت الخطة العملية هي عدم تمكينه في العراق، فاتخذوا مقاومة المحتل سبيلاً، ونشأت جماعات مسلحة واجهت المحتل الأمريكي وحلفاءه، من هذه الجماعات كتائب العشرين وجامع وغيرها.
واستطاعت هذه المجاميع أن تتقدم نسبياً في المحافظات السُّنية، لكنها ووجهت بالعنف، واستطاعت «القاعدة» أن تسيطر على الأوضاع في المناطق السُّنية الملتهبة، ووجهت «القاعدة» ضرباتها على القوى السُّنية المقاومة وفرقتها، واستطاعت الدولة العراقية الجديدة وتحالفها مع الأمريكيين أن تحول صراعها ضد الإرهاب، والتي أقنعت المجتمع الإقليمي والدولي بمواجهتها بما يسمى بالتحالف ضد الإرهاب.
– أما الطبقة الثالثة: فهي طبقة البعثيين الموالين للنظام السابق، والذين ظلوا في مكمنهم الاجتماعي في الموصل والأنبار وبعض أجزاء من بغداد، ثم مؤخراً تحالفوا مع مجاميع «القاعدة» وتنظيم «داعش»، وهم ظلوا سبباً في تفكيك أي مشروع سُني سياسي أو مقاوم.
وتكرر المشهد المأساوي للسُّنة؛ «ساسة يعملون تحت إطار الدستور» غير متفقين على رؤية ولا سياسية موحدة، يفشلون في تحقيق مطالب الديمقراطية السُّنية، في حين يحقق الشيعة والأكراد ما يريدون في كل مرحلة، وسُنة ثائرون متطرفون أو مقاومون يدخلون في صراع مسلح مع الدولة التي يقودها الشيعة، ويكون الصراع في المناطق السُّنية؛ مما سبب دمارها بالكامل، وتفشل كل مرحلة، فالسياسيون السُّنة لم يحققوا أي نجاحات سياسية لإعطاء السُّنة حقوقهم المدنية والدستورية والاقتصادية، كما فشل حاملو السلاح في قدرتهم على حسم معاركهم؛ مما سبب دماراً لمناطق السُّنة وتسبب في هجرة سكانها وموتها اقتصادياً.
إن السُّنة في العراق عاجزون على التوحد في الرؤية والسياسة والقوة، ولا تستطيع أي دولة سُنية الاعتماد على أي طرف منهم؛ بسبب ضعفه منفرداً، أو أي كتلة سُنية؛ بسبب خلافاتها الجذرية، وعليه اتجه العقل السُّني في العراق إلى حالة من الانغلاق والانسداد، وقلة الحيلة، ثم بدأ هذا العقل السُّني إلى مزيد من التطرف في تحميل أي طرف يحاول إيجاد حل أو مخرج أو لتقليل المفاسد والخسائر فيحمله النتائج، ويتجه هذا العقل إلى شيطنة وتخوين الكل مع عدم قدرته على وضع الحل الواقعي.
وعليه؛ يمكن توصيف العقل السُّني العراقي في هذه المرحلة بما يلي:
أولاً: يعتمد العقل السُّني العراقي على محصلة العلم الشرعي دون الاعتماد الحقيقي على قدرات علم الواقع في الجيوستراتيجية، وفهم العلاقات الدولية، والتحصن بالاقتصاد والعلم الاجتماعي، فتقدير الواقع مرده إلى العقل المتخصص وليس العقل الشرعي؛ وبالتالي فإن نقصان القدرة على تحليل الواقع أدى إلى سوء تقدير الموقف؛ حيث اعتمد الموقف على تحليل النظر الشرعي والحمية الدينية، وعزة النفس وترك الاعتماد على التحليل الواقعي الذي يقتضي وجود العقل الإستراتيجي والواقعي الذي يدرس موازين القوى، ويصنع السياسة والموقف المناسب لها؛ ولهذا فإن حالة العسكرة أو السياسة في البيئة السُّنية كانت قاصمة وليست عاصمة.
ومن الطبيعي أن يتولى قيادة الموقف هم طبقة العلماء الشرعيين، ويفترض أن يكون دورهم ليس التصدي للقيادة السياسية، بل بتحفيز العوام ومساندتهم في توظيف الرأي الشرعي لتقدير الموقف الواقعي المبني على آراء المتخصصين؛ لذا افتقدت النظرية السياسية الواقعية المسددة بالرأي الشرعي من الاحتلال الأمريكي للعراق وتطور الحالة السياسية وإلى اليوم.
ثانياً: العقل السُّني مجزأ الهوية ومتعدد الثقافة الفكرية، ولذا فإنه يعكس هوية مضطربة لا تلوي على نسيج فكري واحد، فهناك الفكر البعثي والعلماني والسلفي والإخواني والصوفي، ولكلٍّ نظريته في العمل والواقع، وهي متعارضة في مسارها وأغراضها، ولذا فلا مرجعية فكرية شرعية لأهل السُّنة، وليس المقصود بها الفتوى وإنما الرجوع لها عند الواقعات، وهذا بالطبع انعكس على طبيعة الصراعات السياسية والاستقطابات في المحتوى السُّني الديمجرافي.
ثالثاً: نزوع العقل السُّني نحو الاستعلاء الفكري بسبب التاريخ والديمجرافيا، وبسب طبيعة الحواضن والبيئة والنمطية؛ مما أوجد حاجزاً فكرياً وقدرة على استيعاب الآخر سواء الطائفي أو العرقي أو الوطني أو حتى داخل النسيج السُّني الواحد، وإذا أضفنا أن محددات المظلومية السُّنية التي نشأت بسبب الظلم والطغيان والحرمان وتجاوز الحكومة، فإن ذلك زاد من فجوة الاغتراب الفكري والاستعلاء بما أضعفت قدرة العقل السُّني في العراق على صياغة المشتركات، والبحث عن التناقضات ومبررات التأثيم والتأزيم، بل وجدنا أنه غير قادر على مواجهة الفكر «الداعشي»؛ بسبب أنه ناتج من نفس بيئة الاستعلاء الفكري السُّني، وعليه فإن نتائج أزمته في العراق أدت إلى:
– التلبس بالمشروع الطائفي وإنهاء المشروع الوطني بحكم الواقع، إذ تحول النزوع لمشروع «الإقليم السُّني» هو غاية المطلب السُّني.
– حالة الضياع وعدم الاستقرار والتهجير والتغيير الديمجرافي، فالسُّنة لاجئون في وطنهم وخارجه.
– الفشل في إيجاد القيادة الجامعة القادرة على توحيد الرؤية السياسية للسُّنة، بسبب ضعف الإرادة وشهوة الاختلاف وسوء الظن والشك السياسي.
– فشل الجهود في إيجاد قوة عسكرية منظمة تحت مظلة الدولة تحمي مصالح السُّنة؛ بسبب الفتاوى اللامسؤولة التخطيط لفشلها، والعمل الدؤوب في تخوينها وتأطيرها خارج نطاق الدولة لتصبح مشمولة بقوانين الإرهاب.
يا ترى فما هو الحل؟
من الطبيعي أنه لا يمكن أن يضع أحد حلاً إلا العقل السُّني العراقي، وهذا العقل اليوم مستغرق في جزئيات المشهد المأساوي العراقي، غير مستقر ومستفز بالاعتداءات والظلم اليومي، ومتحفز للتطرف وإصدار الأحكام والتحليلات المتطرفة.
إن استقرار العقل السُّني نحو قيادة فكرية جامعة متزنة تنظر إلى المشهد الجزئي وتفصيلاته داخل العراق، بالإضافة إلى المشهد الإقليمي الدولي للتفكير برؤى عملية شاملة، ربما ذلك سيساهم في دفع الساسة والكفاءات والثوار العراقيين السُّنة للاعتدال في رؤيتهم ومواقفهم، والنظر في تفكيك المفاسد ودرء المخاطر وتعظيم المكاسب لصالحهم.
وتعد مأساة الفلوجة نموذجاً عملياً لمأساة العقل السُّني المضطرب، والذي لا ينظر إلى حقيقة الحدث إلا في الإطار الواحد، وهو إطار الصراع الطائفي، دون التفكير في النظر الشامل ومآلات الأمور حال تفكيك المشهد وإعادة تركيبه وفق نظرية المصالح والمفاسد والسياسة الشرعية، وكيفية توظيف حالة الفلوجة إلى تجسيد حالة من وحدة الرؤية السياسية والعسكرية والإستراتيجية ومعادلة القوة وتوازنها.
فالمشهد خطير؛ إذ تتصارع فيه قوى سُنية محلية سياسية ممثلة في السُّنة الممثلين في مجلس النواب العراقي، وأهل الفلوجة (الديمجرافيا السُّنية)، والحشد العشائري (قوى سُنية مسلحة) في مواجهة قوى سُنية مسلحة متطرفة (داعش) ويقدر عددها بـ600 مقاتل، وفق التقارير الصحفية.
ومن جهة أخرى، فهناك قوى الدولة العراقية ممثلة في الجيش العراقي، وقوى متطرفة شيعية مدعومة من إيران (الحشد الشعبي الشيعي)، وتواجد خبرات إيرانية في الميدان بقيادة سليماني، وقوى دولية تقودها الولايات المتحدة.
فكل هذه القوى متواجدة حالياً في محيط الفلوجة وعلى أرضها، والكل متحفز لنصرٍ يحققه.
فالأمريكيون يريدون الانتصار لكسب معركة الانتخابات الرئاسية لصالح حزب «أوباما».
والإيرانيون يريدون تحقيق نصر مستعجل من أجل ضخه لداخل إيران لفشلهم في سورية، ولتخفيف ضغط الإصلاحيين على تيار المحافظين المؤيد بـ «خامنئي».
والعبادي يريد تحقيق نصر من أجل مواجهة مظاهرات الشيعة في بغداد.
والسياسيون السُّنة ومحافظ الأنبار صهيب الراوي وحشده العشائري يريد تحقيق نصر من أجل تمكين حالة الإقليم السُّني الذي ينتظرون طرحه للمستقبل.
وتنظيم «داعش» يريد تحقيق نصر بعد هزائمه لتثبيت موقفه وحماية نفوذه.
فالفلوجة إذن ليست فقط حالة صراع طائفي، وإنما أيضاً هناك مجموعة من تناقضات المصالح تريد جميع الأطراف تحقيقها من معركة الفلوجة.
ويبقى هنا كيف يفكر العقل السُّني لاستثمار هذه اللحظة التاريخية؟
أشك أن ينجح ذلك العقل ما لم يفك التباسه بالجزئيات وينظر للكليات والمقاصد.
ويبقى أن الدماء المبعثرة من هذا التدافع هي دماء سُنية، ستظل مستمرة ما دام الضعف والتشتت والفرقة سائدة عند السُّنة وعقلها المفكر.
فإلى متى سيستمر العقل السُّني العيش في حالة اللاوعي، وأن يرتفع العقل السُّني في العراق إلى مستوى الحدث والمسؤولية، ويكون على مستوى تحديات الواقع وفهم التحولات والمتغيرات، وأن العراق اليوم ليس هو العراق ما قبل الاحتلال؟
وسيظل العراق السُّني أملاً زاخراً بالعقول القادرة على إنقاذه من التفتت والتجزؤ والضعف.