شهدت تركيا وقبلها الدولة العثمانية سلسلة من الانقلابات المثيرة وقبل أن تتأسس الجمهورية عام 1923م على يد أتاتورك ، فقد كان عزل السلطان عبدالحميد ومن ثم خلعه ونفيه عام 1909م على يد انقلابيين من داخل الجيش العثماني يمثلون جمعية الاتحاد والترقي ذات الجذور الماسونية الخفية بعد أن ضاقت ذرعاً بممارساته وتوجهاته الإسلامية فرفعت هذه الجمعية شعارات الحرية والإخاء والمساواة والمشروطية فعملت بعد خلع السلطان عبدالحميد على تتريك الشعوب غير الناطقة بالتركية وإدخال الدولة العثمانية في حروب خاسرة .
هذه السلسلة الخفية لطمس الهوية الإسلامية أخذت صوراً فاضحة بعد مجيء أتاتورك عام 1923م ورفعه لمبادئه الست وهي الجمهورية والقومية والشعبية والثورية والنظام والعلمانية ؛ حيث أراد أتاتورك تغريب تركيا بطريقته الخاصة وبالقوة.
والملاحظ أن مبادئ أتاتورك خالية من الديمقراطية، وقد فسر العلمانية بأنها حرب شعواء على كل مايمت للدين بصلة، وهي ليست كذلك فالعلمانية الدنيوية لاعلاقة لها بالدين، وأعلن بأن الجيش هو الحامي للعلمانية وتقبل الناس المسألة تحت ضغط التهديد والإرهاب وويل لمن تسول له نفسه الوقوف أمام إجراءاته التعسفية والتي مسخ فيها تركيا، تاريخاً وثقافة مجتمع ، واستخدم البطش في تنفيذ مخططاته، وأحداث تلك الأيام مفصلة في كتاب “الرجل الصنم” والذي تم نشره تحت أسم كاتب مستعار هو ” ضابط تركي سابق ” حيث أكد لي أحد العارفين بالشأن التركي وبالمؤلف نفسه بأنه الكاتب والشاعر التركي الكبير”نجيب فاضل ” بعد أن انفصل عن خط أتاتورك وتعرض للسجن والاعتقال عدة مرات وكانت ممارسات أتاتورك تحت غطاء “بطل الاستقلال”، و هو استقلال تم رسمه في معاهدة لوزان 1922م، فيحق للبطل أن يفعل ما لايفعل غيره وتلك كانت الخديعة الكبرى التي جرى تصميمها بدقة ودهاء.
ولم يتجرأ أحد على معارضة أتاتورك حتى وفاته في عام 1938 م، واستمر على نهجه رفيق دربه “عصمت إينونو” الذي سيطر على كل شيء بواسطة حزب الشعب الجمهوري والجيش؛ حيث صار الأخير هو الحامي لمنهج الأتاتوركية ونهجها بكل ماتعنيه الكلمات بحجة الحفاظ على الاستقلال بالإضافة لوجود المؤسسات الخفية التي تأتمر بأمره والتنظيمات الأخطبوطية وخصوصاً الماسونية.
وكما يقول د.رفيق عبد السلام : إن هذه النخب مرتبطة بمراكز السيطرة الدولية والتي تكون مؤتمنة على حماية نظام القيم والثقافة المهيمنة ومصالح قوى السيطرة الدولية أكثر من ائتمانها على قيم ومصالح مجتمعاتها، وكانت القيم والأعراف الإسلامية الهدف المفضل لهذه الجماعات، في مسألة ذات جذور عميقة من الصراع التاريخي والعقائدي بين الشرق والغرب.
بعد الحرب العالمية الثانية تم السماح بتأسيس الأحزاب في تركيا، فقام عدنان مندريس وجلال بايار بعد طردهما من حزب الشعب الجمهوري عام 1945 م وأسسا عام 1946 م الحزب الديمقراطي، ويقول أحد المصادر: إن أتاتورك كان قد حذر من من توجهات الشاب علي عدنان مندريس عندما كان شاباً في الثلاثين من عمره.
اكتسح الحزب الديمقراطي انتخابات عام 1950م وصار مندريس رئيساً للوزراء وجلال بايار رئيساً للجمهورية، واستمر الحال على ماهو عليه في بقية الانتخابات وإلى عام 1960م حيث شهدت الجمهورية التركية انقلاباً عسكرياً أطاح بمندريس وحكومته قام به مجموعة من الضباط في يوم 27 مايو 1960م وبقيادة جمال كورسيل، فقد كان إعلان بيان واحد من الإذاعة ليصبح الانقلاب حقيقة واقعة .
وكان مندريس قد تحدى معظم ممارسات أتاتورك فسمح بالحج وأعاد الأذان وقراءة القرآن باللغة العربية وأعاد فتح المدارس الدينية وكثيراً من المساجد والجوامع المقفلة، كما شهدت تركيا تقدماً في المجالات الزراعية والصناعية والعمرانية لم تشهده منذ استقلالها، رغم وجود بعض الأخطاء في هذه المسيرة وهي مسألة طبيعية جداً والتي اتخذها الانقلابيون ذريعة لعملهم المشين.
أخذ الانقلابيون مشروعيتهم من أساتذة الجامعات الحقوقيين ، حيث أفتوا بأن الانقلاب مشروع وأنه من الممكن تغيير الدستور وأن الذي حدث ليس انقلاباً وإنما استيلاء على السلطة في محاولة بائسة للتلاعب بالكلمات والألفاظ على حساب الحقائق، وكان مندريس يسميهم ذوي الأغطية السوداء وكلهم ينتمون للمحافل الماسونية، ولذلك قال قبل إعدامه بأنه: ” لم يكن يوماً من الأيام ماسونياً !” والغريب بأن هذا الانقلاب لاقى الدعم التام من قبل قوى اليسار واليمين آنذاك، وحتى منظمة حلف شمال الأطلسي التي تنتمي لها تركيا لم تعارضه رغم أن قانونها الداخلي لايسمح بالانقلابات العسكرية لدول الأعضاء فيها، علماً أن معظم القوى الرئيسة لليسار يتحكم بها النصيرية والذين يطلقون على أنفسهم بالعلويين وهم يرفعون صور حاجي بكتاش أحد مؤسسي فرقتهم بجانب صور أتاتورك ولهم مراكز قوية في ألمانيا .
وبهذا يبدو الوجه الطائفي لليسار التركي وجذورعدائه للإسلام .
إن طريقة إعدام مندريس واثنين من رفاقه وتدليهم من ثلاث خشبات حقيرة يشكل وصمة عار في جبين من نفذوا الانقلاب، ناهيك عن المعاملة الفظة والقاسية التي عومل بها الرجل وكأنه مجرم حرب!
دخلت تركيا بعدها ولأكثر من أربعة عقود سلسلة انقلابات خفية ، وعلنية ، والبلد يخرج من دوامة ليدخل في أخرى ، فعادة ما لاتتوافق ماتريده الحكومات المدنية مع مراكز القوى الخفية في الجيش والمؤسسات التعليمية والأمنية والتي بقت خارج سيطرة الحكومات بالإضافة لعمل هذه القوى على تأسيس منظمات ومؤسسات خدمة مدنية وبغطاء ديني هو على الأرجح ماتمثله منظمة الخدمة ومايتبعها من مؤسسات والتي يقف على رأٍسها فتح الله غولن على أغلب الظن وتتم إدارتها من أمريكا بعد فضيحة علاقتها مع القوى الخفية التي تقف خلفها ، ولما كنا ليس بصدد سرد تاريخ الانقلابات فإننا سنقف على دوافع الانقلاب الأخير، والذي لم يشهد له العالم مثيلاً من قبل .
فهذا الانقلاب وبالسيناريو الذي ظهر به أما شاشات التلفزيون وعلى مواقع التواصل الاجتماعي يعد واحداً من أغرب الانقلابات لافي تاريخ تركيا الحديث فحسب ولكن في مجمل التاريخ العالمي ، حيث بدأت أحداثه دموية ومن اللحظة التي وطأت أقدام الانقلابيين لشوارع أنقرة و إستانبول، ولم تبدأ من القصور الرئاسية ومراكز الحكومة التي تعرضت بدورها لهجمات تبدو كمعارك حربية أكثر من كونها انقلابا ، مما يدل على تشنج العقلية التي كانت تقف خلفه وما أرادته من اقتلاع نظام كامل بدأت خطوطه ترسم واضحة ويضرب بجذوره داخل المجتمع التركي ، وتختلف على ما اعتادت عليه تركيا في العقود الأخيرة اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وبعد أن صار النظام نموذجاً لأغلبية كبيرة من شعوب الدول العربية والإسلامية في التقدم الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية المتوازنة والديمقراطية .
فهذا الإنقلاب ماهو إلا إمتداد لانقلاب 1960م وما تلاه من انقلابات وهو صراع بين تيارين أولهما يريد تركيا على النموذج الأتاتوركي ويمثله رجال الجيش والجنرالات وبعض النخب التعليمية المتأثرة بالنموذج الغربي بالإضافة إلى بعض الأقليات الدينية التي بدأت تصنف نفسها خارج الإسلام، والثاني تيار يريد الحفاظ على الهوية الثقافية الإسلامية لتركيا وهي هوية عمرها عدة قرون وبأسلوب حداثي وديمقراطي والذي يمثله اتجاه حزب العدالة والتنمية وجمهور المتعاطفين معه والذي حقق نجاحاً على كل المستويات لم يكن بحسبان القوى المناهضة له من الداخل والخارج.
والتيار الأول ليس تياراً مشتتاً ولكن ترعاه منظمات عميقة تم غرسها داخل كل مفاصل المجتمع بإحكام ودهاء وبعضها تحت غطاء إسلامي معين كما بينا وترى لتركيا إسلامها الخاص (يسميه غولن الإسلام التركي) وأنها مرتبطة بالثقافة الغربية أكثر من إرتباطها بالشعوب العربية والإسلامية وهو ماكان يؤكد عليه في أحاديثه كمال أتاتورك وسلفه والكل يشترك بجذور إمبريالية خفية وميلاً للقيم الغربية في كل شيء ناهيك عن النفس العدائي لكل مايمت للإسلام بصلة ، بالإضافة إلى أن أوروبا وأمريكا لايمكن أن تستبعد الرقم التركي من حساباتها الأيديولوجية والتاريخية والجيوسياسية والعسكرية فهو رقم معقد وصعب ، فمن الناحية العسكرية لم تشعر أوروبا بالخطر من الشرق عسكرياً وأيديولوجياً، إلا عندما استولى العثمانيون على القسطنطينية عام 1453م وماتلا ذلك من حروب أوصلتهم لأبواب فيينا، حتى إن الإصلاحات الكنسية التي قام بها مارتن لوثر (ت 1546 م) وما تبعها من انشقاقات وتأسيس المذهب البروتستانتي لم يكن إلا بدافع الهزائم أمام الأتراك والمسلمين ويشهد على ذلك عناوين الكتب التي ألفها مارتن لوثر نفسه وهو أمر معقد وطويل .
إضافة إلى ذلك فإن النفس الروسي ومنذ عهود القياصرة والذي يريد التوسع جنوباً للمضائق ونحو البحر المتوسط كان يرى في تركيا عائقاً يجب إزالته أو على الأقل تدجينه ناهيك عن الذكرى المؤلمة لضياع القسطنطينية عاصمة الأرثوذكسية العالمية كما بينا.
إن إدارة بلد مثل تركيا بروحية تمثلها تاريخاً وثقافة وبجذور إسلامية ليس بالأمر السهل، وهو كما رأينا واقعة بين فكي كماشة تريد لها السير على خطى أعدائها الذين يريدونها ضعيفة وذليلة على خطى الرجل المريض ، وهو المطلوب من تركيا أولاً وآخراً و كشف عنه النفس العدائي الخفي المؤيد للانقلاب .
لقد كان سيناريو انقلاب تموز 15 تموز وكما رآه العالم عبر النقل الحي مفرطاً في الدموية ليفهموا العالم ومن يقف ضدهم بأنهم سيلاقون مصير مندريس ورفاقه حتى بدون محاكمات صورية وبدى ذلك في تأييد الغرب بصمته المطبق على مايحدث إلى أن انكشفت الأمور في صباح اليوم التالي ولو نجح الانقلاب لذهب السفير الأمريكي وقابل قائد الانقلاب و لو فشل فإنهم سيدعون بأنهم لاعلاقة لهم بالانقلابيين أو بتأييدهم .
لقد صبت معظم الصحف الغربية وبعض الصحف العربية والقنوات التلفزيونية البائسة جام غضبها على السيد أردوغان ونهجه الذي تسببت خطاباته في انقسام البلاد حسب تصوراتهم والتوترات الطائفية وأنه لا حامي للدستور العلماني إلا الجيش التركي ، ذلك الدستور الذي وضعه انقلابيو 1960 ومن تآزرمعهم من أساتذة الحقوق في الجامعات التركية إلى آخر تلك الترهات التي لاتنم إلا عن عقلية بائسة وحاقدة وعدائية ، لقد أعموا بصيرتهم قبل أبصارهم عندما لم يعيروا أهمية للشعب الذي نزل بصدور عارية ليقف أمام الدبابات ويعتقل من تطاولوا على تجربته الديمقراطية ، فهذه الديمقراطية لاتروق للغرب الذي لم يتخل عن أفكاره الاستعمارية طالما لاتشجع مع رفيقتها العلمانية كما يفهمونها الشذوذ الجنسي ولاتدعو للإساءة للدين وقيمه الروحية!
إن تاريخاً جديداً قد بدأ يوم 15 تموز لا في تركيا فقط ولكن في معظم دول الشرق العربي والإسلامي ، فلن تمر المخططات التي يضحكون بها على شعوب المنطقة بالسهولة التي يتصورونها باسم الحرية ومحاربة الفساد إلى آخر تلك السيمفونية التي لاتنتهي وأن لعنة عدنان مندريس ومن سار في طريقه ستصيب الجنرالات ومنظري انقلاباتهم ، وستبعثهم للسجون وإلى مزابل التاريخ وسيعيدون حساباتهم التي يعتقدون بحتميتها بإرسال من يتحداهم إلى أعمدة المشانق والسجون ، فالجيوش للدفاع عن الأمم لا لتخريبها من الداخل وأنه من أسخف الأقوال أن نضع الجيوش في مواقع حماية المبادئ ورجالها لاتتعدى أفكارهم حدود خوذهم .
ففي الذكرى الخامسة والخمسين لانقلاب 27 مايو 1960م وصف السيد أردوغان ذلك اليوم بأنه يوم أسود في تاريخ تركيا وهو فعلاً كذلك، وقالت بعض الصحف: إن مصيره سيكون كمصير عدنان مندريس ووضعوا صورته بجانب صورة محمد مرسي ، فقد حاربوه بكل الطرق ولم يشف غليلهم إلا تمني إعدامه، فالشارع التركي كان على وعي بما يخطط له من مؤامرات ولذلك وصف أحد نواب العدالة والتنمية عندما سئل قبل الانقلاب عن إمكانية حدوثه فقال سيكون: ” الطامة الكبرى ” .
لقد كانت عملية الانقلاب على مندريس مهزلة تاريخية بكل ماتعنيه الكلمات ، حيث تعرض لشتى الإهانات وأنواع السخرية والاتهامات حتى أنهم لم يتحرجوا بنسبة أحد أولاد الحرام إليه ، وهم يدعون االعلمانية المنفلتة ، وأن التهكمات والنكبات اللا أخلاقية السمجة وهو ذلك الرجل الذي خدم بلده لعقود ، ولكنها عقلية المهاترات التي يتحلى بها كل الانقلابيين .
استمرت المحاكمات والحبس الانفرادي لمندريس وجماعته لأكثر من عام مما أدى لانتحار قسم منهم وإصابة مندريس باكتئاب حاد وفقدانه لجزء كبير من وزنه وغياب تلك الابتسامة المشهورة على وجهه .
لقد صاحب الانقلاب تغيير الدستور الذي كان يقضي بعدم إنزال عقوبة الإعدام على ممن تجاوز الستين من عمره ، ولما كان مندريس من مواليد 1899م وكانوا قد أصدروا حكمهم حتى قبل الانقلاب بإعدامه فقد فصلوا الدستور على مقاساتهم ، فهذه العلمانية والثورية التي تعلموها من محافلهم طبقوها بحذافيرها ، فغيروا الدستور وأعدموه .
لقد تعلم الشعب التركي ووعى كل هذه الأحداث ، ولذلك كانت وقفته التي لن ينساها العالم قاطبة بوضع جنرالات الفساد وراء القضبان ومحاكمتهم وصب اللعنات عليهم ، ففي هذه المرة أصابت لعنة مندريس من أرادوا إحياء ماسارت عليه تركيا قبل أكثر من نصف قرن ، وأنها بالتأكيد ستصيب كل الجنرالات والذين يقفون خلفهم في دول المنطقة بنفس المصير وصار القاصي والداني والصغير والكبير يعلم بأن هذه الانقلابات يخطط لها في الخارج وتنفذ على أيدي من في الداخل ولكن حسابات البيدرو لاتطابق حسابات الحقل في كل مرة ، فكانت لعنة مندريس التي أطاحت بالجنرالات وكشفت عن من يخطط لهؤلاء الجنرالات وأن فشل هذا الانقلاب سيضع تاريخ المنطقة كله على مسار جديد .