إن العملية التركية في جرابلس مؤهلة لتغير جميع التوازنات بشكل جاد، في الواقع اضطرت تركيا إلى تأجيل هذه العملية التي خططت لها مسبقًا مرة أو مرتين، وذلك لعدّة أسباب.
لماذا لم تبدأ العملية قبل هذا التاريخ؟
أولاً: العلاقات المتوترة بين تركيا وروسيا على خلفية إسقاط المقاتلة الروسية التي انتهكت الأجواء التركية، وبسبب هذا التوتر لم يكن بوسع تركيا القيام بأي عمليات جوية داخل سورية، حيث لم توافق روسيا على أي عمليات تكون في صالح الأتراك.
ثانيًا: العلاقات المتوترة مع الولايات المتحدة، أبدت تركيا ردود فعل قوية ضد الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لذراع منظمة “بي كا كا” الإرهابية في سورية، وقد اقتربت تلك العلاقات من نقطة الانهيار.
ثالثًا: الأعذار التي ما فتئ بعض الضباط في الجيش التركي من منتسبي منظمة “فتح الله غولن” الإرهابية بتقديمها من أجل عدم تنفيذ هذه العملية.
رابعًا: حالة عدم الاستقرار التي شهدتها الأجندة السياسية المحلية في تركيا، ما منع دخول سورية.
لكل هذه الأسباب، لم تتمكن تركيا من شن عملية جرابلس رغم نيتها في ذلك، وهو ما زاد من الضغط على القوى المدعومة من قبل تركيا في المنطقة وهم التركمان والجيش السوري الحر.
أيهما كانت الخطوة الحيوية والإستراتيجية لتركيا؟
قبل المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 يوليو الماضي، ربما كان تطبيع العلاقات مع روسيا أهم خطوة إستراتيجية وحيوية بالنسبة لتركيا، إن ذلك التطبيع ساهم في عودة المرونة للتحركات التركية مرة أخرى، كما أن عدم تقديم كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية الدعم لتركيا عقب المحاولة الانقلابية كشف عن مدى الخطر الذي باتت تواجهه البلاد، وعندما جاء هذا الدعم من روسيا، باتت أوروبا والولايات المتحدة مضطرة للإعراب عن دعمها خشية من أن تخسر تركيا.
يا لها من مصادفة مثيرة للاهتمام، فقد بدأت عملية جرابلس في نفس اليوم الذي بدأ فيه نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن زيارة إلى تركيا، قدم نائب رئيس الولايات المتحدة الاعتذار أمام الرأي العام التركي لتأخر زيارته، وكذلك تأخر دعم بلاده لتركيا عقب المحاولة الانقلابية، ثم قال جملة مهمة: “لن تجدوا صديقًا أفضل منّا”، إن هذه الجملة جاءت ردًا على التقارب التركي مع روسيا.
وبشكل طبيعي، وجه الصحفيون لبايدن خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في العاصمة التركية أنقرة، أسئلة حول موقفه من عملية جرابلس، وهو من جانبه أبدى دعمًا قويًا للعملية، وأعلن من أنقرة عن ضرورة انسحاب تنظيم “ب ي د”، الذراع السورية لمنظمة “بي كا كا” الإرهابية، إلى شرق الفرات، وهذا إنما يشير إلى وجود تغيير كبير في سياسات واشنطن.
وجدت الولايات المتحدة نفسها مضطرة لتقويم علاقاتها مع تركيا، عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة، والمناورات السياسية التي أجرتها تركيا لتطبيع علاقاتها مع روسيا، وقد اشترطت تركيا مقابل ذلك، التخلي عن مشروع إقامة دولة لمنظمة “بي كا كا” الإرهابية شمالي سورية، لم يكن لدى الولايات المتحدة ومنذ البداية سياسة فعلية تجاه سورية ما عدا بناء دويلة تابعة لها للأكراد شمالي سورية، لقد انقلبت الموازين في المنطقة بين عشية وضحاها؛ حيث أعلن بايدن ثم كيري عن ضرورة انسحاب ذراع “بي كا كا” في سورية إلى شرق الفرات، مؤكدين عدم دعم الولايات المتحدة لتلك المنظمة في حال أبقت على وجودٍ لها غربي الفرات.
لقد كانوا مجبرين على تلك التصريحات، لاسيما وأن تركيا، وروسيا، وإيران، والمملكة العربية السعودية، قد اتفقت على ضرورة حماية وحدة الأراضي السورية، وأعلنت ذلك بوضوح. ولأن الولايات المتحدة الأمريكية تعلم أنها غير قادرة على مواجهة جميع هذه الدول، فقد أوعزت لمسلحي “بي كا كا” وذراعهم السورية بالوقوف في مناطق شرق الفرات.
إلى أي مدى ستواصل تركيا التقدم؟
لن يقف التقدم التركي عند جرابلس، فهي لن تسمح لوجود مسلحين تابعين لـ “داعش”، و”بي كا كا” الإرهابيتين في مناطق منبج وعفرين (ريف محافظة حلب)، ويبدو أنها حصلت على دعم من محور روسيا / إيران في هذا الصدد.
وفي هذه الحالة، ما الذي سيحدث إلى الشرق من نهر الفرات؟ إن تركيا ستعمل على التدخل في تلك المنطقة مقابل الموافقة على بقاء الأسد خلال المرحلة الانتقالية، حيث قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، ردًا على سؤال أحد الصحفيين له “من سيستقر في المناطق المحررة مثل جرابلس؟” جملة مهمة للغاية في هذا الصدد: “إن من سيستقر في تلك المنطقة هم أهلها الذين كانوا يعيشون فيها”، وهذا يعني أن سكانها العرب سيعودون إليها؛ لذلك، على الأكراد الانسحاب من جميع المناطق التي قاموا باحتلالها رغم أنهم لا يشكلون فيها سوى أقلية، على سكان تلك المناطق العودة إليها؛ عربًا كانوا أو تركمانًا.
إن عملية جرابلس قد تكون بداية عملية طويلة الأمد، حتى الوصول إلى الاتفاق على نظام محدد في سورية لا يشمل الأسد.
المصدر: صحيفة “الشرق” القطرية.