حديث العالم اليوم يدور حول دونالد ترمب وما يفعله كل يوم من جديد العجائب.
وهذه العجائب قد جددت في ذاكرة فريق من الناس ما كانوا قد نسوه وتجاوزوه، وخاضوا فيه عن صراع الحضارات، ومحور الشر، والمؤامرة على الإسلام والحروب الدينية.
وفي الجانب الآخر كشر ترمب وفريقه الرئاسي عن أنيابهم، وكشفوا دور اليمين والراديكالية الغربية التي بدأت تطفح على السطح، وتستدعى إلى الذاكرة مصطلح المواجهة بين الشرق والغرب ، وهو من المصطلحات التي تأخذ مكانها في ذهنية المتلقي من موقع التضاد والتناقض.
وربما كانت حمى الحديث عن الصراع هي التي وضعت المصطلح في هذا الموضع، ويضاف إليها تصنيفات ترمب وفريقه للدول السبع التي حظيت باهتماماته وطالتها قوائم المنع، ويلاحظ هنا أيضاً أن كلها دول إسلامية، ومن دول الشرق التي منيت بحروب أغلبها داخلي، كان الصراع فيها بين شعوب تبحث لنفسها عن الحرية ضد دكتاتوريات ساندتها أمريكا فترة من الزمن، فلما انقضت سنوات عسل المصالح دخلت فيها أمريكا باحتلال أفسدها وقسمها وغلب فيها فئة على فئة وتركها طوائف تأكل بعضها كما حدث في العراق.
الوضع أيضاً في أفغانستان شبيه بما حدث في العراق تماماً، بينما في سورية غضت أمريكا طرفها عن جرائم النظام وتركت الشعب السوري لبراميل الأسد المتفجرة ومليشيات حلفائه القاتلة بما فيها ترسانة الروس العسكرية تشوي جلودهم وتدمر بيوتهم وتقتل أطفالهم وتحطم حتى المدارس والمستشفيات، وفي النهاية وبعد كل مئات الآلاف من الضحايا وملايين المشردين والمهجرين يبقى الدكتاتور ويفرض رؤيته ويعيد تركيبة البلد الديموجرافية وفق مذهبية طائفية ممقوتة، ليكون ما حدث في العراق هو نفس ما حدث في سورية من تغليب فئة على فئة مع اختلاف بسيط في السيناريو، وهو ذهاب صدام حسين في العراق، بينما هنا المحافظة على بقاء الأسد في سورية ضمانا لأمن “إسرائيل”.
أما اليمن والصومال وليبيا فأمرها معروف، ودعك من إيران فهي تعرف كيف تسوي أمورها مع الأمريكيين تحت الطاولة – أو من فوقها – لا فرق، مهما ظهر في الموقف الأمريكي من حدة وتشنجات.
فإذا أضيف الإسلام بديلاً عن الشرق أو رديفاً له في دلالة المصطلح ليصبح “الإسلام والغرب” زادت حرارة الجو وامتلأ المناخ بالتربص وسوء الظن، وبدا ربما على استحياء حديث عن الصدام والعدائية، وأحياناً يظهر بشكل سافر ليعبر عن الاتهام الدائم من كل طرف للطرف الآخر، الأمر الذي يشكل خطراً على السلام العالمي.
وإذا كنا نعلم أن في الشرق متطرفين، ففي الغرب متطرفون أيضاً، إلا أن المتطرفين في الشرق خارج القانون، وهم مطاردون به، بينما المتطرفون في بعض بلاد الغرب أضحوا في مراكز القرار كحالة ترمب؛ وبالتالي هم من يملكون القانون ويشرعون، وتلك كارثة كبرى تزيد الالتهاب وتساعد على إشعال الفتيل.
غير أن مجتمعات الغرب بوعيها المتراكم عبر السنين، وبإدراكها الواعي لقيمة الحرية، وإيمانها العميق بالتعددية وضرورة التعايش بدأت فوراً في حصار هذا الخطر، ومن ثم تجدد الحديث عن التقارب والتعاطف مع الأقليات وطرح من جديد حوار الثقافات وحوار الحضارات وحوار الأديان، بدلاً من الصراع.
ومع أن الحقيقة على مستوى التاريخ والواقع تؤكد دوماً أن الإسلام – والمسلمين تبعاً له – هم الضحايا دائماً، إلا أنه وبرغم الحقائق التي يؤكدها التاريخ والواقع فلم تتوقف الهجمات على هذه الأمة منذ فجر تاريخها، ولم تتعرض أمة من أمم الأرض لهجمة تستهدف عقيدتها وهويتها، وتتعرض لكمّ من الأذى النفسي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي مثلما تتعرض أمتنا الإسلامية في زمنها الراهن؛ زمن الغفلة والانكسارات.
ويلحظ الباحثون في العلاقات الدولية أن بعض الطوائف في الغرب والشرق لا تريد للدنيا أن تستريح من أعباء الصراع وويلات الحروب، ومن ثم فهم يوقدون جذوة الصراع كلما ضعفت، ويشعلون نيران الحروب كلما انطفأت، مستغلين في ذلك ما حققته التكنولوجيا الحديثة في صناعة الآلة الإعلامية وفن الدعاية، وما تنتجه مصانع الكذب لدى الغرب في تشويه الحقائق وفرض ذاكرة مزيفة للتاريخ تجمع فيها صوراً مشوهة لتقدمها على أنها هي الإسلام الذي يعادي الحضارة ولا يتعايش مع الآخر، ويعلن الحرب على كل ما هو غربي المنشأ والميلاد، وقد نجحت تلك الدعاية في السيطرة على مساحة كبيرة من عقول ووجدان أبناء الغرب.
ولما كانت الدنيا مدبرة عن المسلمين اليوم، فإن مجتمعاتهم تعيش مرحلة الاستلاب الحضاري، ومن كان بالأمس تلميذاً لهم يتعلم منهم ويتلقى عنهم، هو اليوم يتنكر لهم وينسى فضلهم، وكما يقولون: الدنيا إذا قبلت على أحد أضفت عليه محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه، ومن ثم فقد نشأ تيار حديث في مجال البحث العلمي في الغرب يحاول التنكر لتراث المسلمين الحضاري وأثره في نهضة الغرب، ويتجاهل العطاء العلمي لعمالقة الإسلام بداية بابن سينا، والفارابي، وابن رشد، والغزالي، والبيروني وغير هؤلاء، ومع أن هذا التيار يجافي المنطق العلمي وشهادة التاريخ، إلا أن هناك طوائف من البشر تستمد قوة القول من موقع القائل لا من صحة الحقيقة ومنهجية العلم وصدق الرواية وسلامة التوثيق، وقد ساعد على انتشار فكرة هذا التيار ثلاثة عوامل نشير إليها هنا في اختصار:
العامل الأول: ما تقوم به الآلة الإعلامية وأجهزة الدعاية هناك؛ حيث تجتزئ من التاريخ بعض المواقف دون أن تذكرها في سياقها العام، فتقع بذلك في خطيئة التدليس وتحريف الكلم عن مواضعه.
العامل الثاني: ساعدت بعض شرائح المتدينين المهاجرة إلى الغرب في تكريس تلك الرؤية المنحازة حين راحت تتحدث عن الإسلام وكأنه دين يعلن حرباً عالمية على المدنية الحديثة بكل ما تحمله من تيارات دون تفريق فيها بين الغث والسمين والحق والباطل، ومن ثم فقد انتقت الآلة الإعلامية ومعها بعض أجهزة الرصد هذه العينات وقدمتها على أنها هي التي تمثل الإسلام حركة وفكراً، ثم بدأت في محاكمة الإسلام كله والمسلمين جميعاً انطلاقاً من رؤيتهم لهؤلاء القلة، علماً بأن مجتمعات المسلمين نفسها أول من رفضهم وأدان سلوكهم ومنهجهم الفكري في التهجم على الآخرين، والذين يدرسون اليوم في الغرب يعرفون ذلك التيار جيداً.
العامل الثالث: وهو أن المتلقي في الغرب خالي الذهن، والساحة فارغة ممن يصوب الخطأ ويوضح الحقيقة، وينتصر ولو في مجال الكلمة لأمة محروبة تنزف من قلبها وتسيل الدماء في أطرافها المختلفة، وأشهد أن الإصابة كانت بالغة، وأن خسائرنا كبيرة.
لذلك كان من المهم أن تستفز إرادة الأمة ممثلة في المفكرين والعلماء والباحثين الجامعيين والمجمعيين لتواجه التحديات الحضارية بما تستلزمه حالة الشهود والتأثير، والفاعلية التي تتناسب مع حجم التحدي من ناحية، وخسارة العالم بتشويه الحقيقة وغياب المجني عليه عن ساحة العدالة ليثبت حقه في الاختلاف والخصوصية وليدافع عن نفسه من ناحية أخرى.
ومن ثم كان من المهم أن نتعرض هنا لسلسة من المقالات لعلاقة الإسلام بالغرب في ضوء المستجدات تنصف الحقائق وتخدم موضوع الحوار وتقدم مفاتيح وآليات نستطيع بها أن نتعرف على حقيقة الأمر وفق عمل منظم يعتمد المنهجية العلمية بعيداً عن حرارة التعصب الذي يشكل حماساً يشتعل ولا يمثل حقاً يضيء، ومن ثم نتساءل:
هل ما يقوم به ويفعله ترمب الآن ضد الإسلام والمسلمين هو نقد موضوعي ينطلق من موقف أيديولوجي يملك رؤية أو حتى يحاول صياغة رؤية فكرية أو سياسية؟
الإجابة أن كل المعطيات حتى الآن تخبرنا أن الرجل لا يملك حجة علمية يدلل بها على ما يقول به من عداء الإسلام أو المسلمين لأمريكا، وللإنصاف فإن سطحية الرجل ومواقفه المتخبطة تخبرنا أنه لا يملك القدرات لصياغة رؤية أيديولوجية ولا علاقة له بهذا المجال، وإذن فلماذا يأخذ هذه المواقف الحادة؟
الإجابة بغلبة الظن أن تلك المواقف ما هي إلا مجرد محاولة لرئيس نجح في الانتخابات يريد أن يظهر بمظهر من يفي بوعوده للناخبين.
من الإنصاف هنا أن نؤكد أنه برغم المحاولات التي تمت من بعض الجهات الإعلامية والأكاديمية لتشويه الإسلام والمسلمين فإن فريقاً من الباحثين الأكاديميين في الغرب لم ينجرف مع ذلك التيار الرافض للفضل والمتنكر لذويه، بل ينحاز هذا التيار لعدالة المنهج العلمي والخلقي وشهادة التاريخ، ويؤكد أن الحضارة انتقلت من الشرق إلى الغرب من خلال جذور إسلامية البناء منهجاً وطريقة، وأن الجسور التي انتقلت خلالها تلك الحضارة جسور شرقية الأصل عقلاً ووجداناً، وأن ثقافة الإسلام – لا غيرها – بتسامحها من ناحية، وتقديرها للجهود العقلية والعلمية من ناحية أخرى، هي التي قدمت للدنيا سقراط، وأرسطو، وانفتحت على الآخر الثقافي والديني فأخذت منه وعلمته، وأن الدنيا ما عرفت يوماً قيمة من القيم الجميلة إلا من خلال الشرق لأنه – رغم التخلف والتراجع – كان ولا يزال هو النبع والمصدر لكل القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية، ومن ثم فالتواصل لم ينقطع، ودعوات الصراع مرفوضة والعنصرية والاستعلاء العرقي يجب أن يختفي.
بقي أن نذكر أنفسنا في داخل مجتمعاتنا عامة، وفي مجتمع المهجر بشكل خاص، أننا نعيش في زمن ظروفه السياسية والعلمية والاقتصادية تحتم علينا ضرورة التواصل مع الآخر ومعرفته معرفة دقيقة، كما أننا نظراً للعلاقات المتشابكة نعيش عصراً لا نستطيع فيه تحمل نتائج وآثار وثمن الجهل بمواقف الآخر المشرفة والعادلة والمنصفة، ونكتفي بتعميم الأحكام الجائرة عليه، ثم وضعه في خانة الأعداء لمجرد الاختلاف معه في القيم أو في العقائد، فذلك حكم ظالم، بالإضافة إلى أنه جريمة أخلاقية يرفضها الإسلام ويبرأ منها كل العقلاء.
(*) المفتي العام للقارة الأسترالية