أسئلة كثيرة تراودنا هذه الأيام: لماذا لا نتذكر ما نقرأ وننسى الكثير من مواعيدنا وأصبحت معلوماتنا ضحلة نوعاً ما؟ ولماذا لا نستهوي القراءة في بعض الأحيان، وإذا ما قرأنا ننسى سريعاً، ونمر مرور الكرام على الكثير مما نستقبله يومياً، وأحياناً نأخذ نفساً عميقاً لنتذكر بعضاً مما وردنا في الماضي القريب ونحن في حالة من الشك “كأنني قرأته أو شاهدته من قبل” ولم يمض على ذلك سوى أيام أو سويعات قليلة، يا ترى هل هناك مشكلة؟ وأين تكمن؟ هل هو ضيق في الوقت أم هو خمول في الدماغ أم علامة نقص فيتامين “B12” كما يحلو للبعض أن يصف الحالة؟ وهل نحن بحاجة لذاكرة خارقة في هذا العصر الرقمي؟ إليكم القصّة:
مشكلة تزاحم المعلومات تضغط اليوم على ذاكرتنا وذاكرة هواتفنا وأجهزتها الذكية، حتى كادت تهلك، وحولتنا إلى أسرى لهذه التكنولوجيا وجعلتنا نهملُ كثيراً مما يمر علينا يومياً عبر أثير مواقع التوصل الاجتماعي سواء أكانت مقالات أو مقاطع فيديو أو صور أو مواعظ أو أخبار، بل أجزم أن الكثيرين يدخلون إلى هذه التطبيقات لتصفير العداد لا أكثر أو الرّد بمجاملة وربما عدم الرد والتظاهر بالانشغال في أحيانٍ أخرى، فالكثير منا عبارة عن عنصرٍ خاملٍ في العشرات من المجموعات الاجتماعية والسياسية مجاملةً لمن دعاه لا أكثر.
في الماضي القريب، كانت لدينا القدرة لحفظ عدد كبير من أرقام الهواتف، نتذكر أسماء أصدقائنا القدامى، لدينا القدرة والوقت لمشاهدة الأخبار ومشاهدة الأفلام والاستمتاع بقراءة صحيفة يومية أو مجلة دورية بل ومتابعة إصداراتها حتى لا تفوتنا سلسلة علمية أو ثقافية معينة! في إحدى ورشات العمل طلبت شخصاً يحفظ هاتفَ زوجته أو زوجها.. فقام واحد فقط من الجموع الغفيرة!
في عام 1970م أطلق الكاتب والمفكر الأمريكي آلفين توفلر مفهوم الإغراق المعلوماتي “information overloading“؛ وهو باختصار صعوبة اتخاذ القرارات أو استيعاب معلومة معينة بسبب كثرة المعلومات الواردة للدماغ، كان هذا المفهوم في سبعينيّات القرن الماضي عند انتشار القنوات التلفزيونية والمكتبات والصحف والمجلات والإعلانات! بعد 40 عاماً على مقولة توفلر نرى أن التكنولوجيا الرقمية زادت من صعوبة تخزين واستيعاب المعلومة لدى العقل البشري بشكل أكبر، فنحن نعيش في مجتمع رقمي تتزاحم المعلومات وتتراكم وتمر عبر ردهات العقل بسرعة مذهلة لا نقوى على تذكر ما نراه أو نسمعه أو نشاهده؛ لذلك تظهر لنا علامات النسيان، بل إن بعض العلماء وصف الحالة التي نعيشها بالمتلازمة، حيث فاق الإنتاج البشري للمعلومات في الـ30 سنة ماضية ما أنتجته البشرية في 5000 عام.
لقياس هذا الإغراق المعلوماتي بشكل بسيط، فقط اترك هاتفك لمدة 24 ساعة لتعرف حجم المعلومات التي تصلك والتي يجب أن تقرأها، فنحن نستقبل يومياً عشرات الإيميلات، نشاهد عشرات من مقاطع الفيديو، مئات المشاركات على “الواتساب” و”التليجرام” و”السناب شات”، عشرات الصور والتقارير والاجتماعات والتي جعلت الكثير منا يمر عبر تطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي فقط مرور الكرام مع قلة التفاعل مع المحتوى العلمي الحقيقي – مع وجود التفاعل للمواضيع الأقل أهمية كالصور والمقاطع الفكاهية – وأحياناً تصيبنا الشجاعة فنقوم بالنسخ واللصق – طلباً للأجر – في ظاهرة يجيدها معظمنا، لدرجة أن الموضوع الواحد تراه مكرراً في المجموعة الواحدة عدة مرات.
لا أحد يقرأ للأسف، هي مجموعات شكلية لا أكثر في معظم الأحيان، بل نجد أحياناً بعض زائري المجموعة ينسخ نكتة لإضحاك أفراد المجموعة بينما يغرق الآخرون في تقديم العزاء لأحد الأفراد الآخرين.. يا لهول الموقف المحرج! تتكرر هذه المشاهد كثيراً للأسف، أعتقد أن المبدعين من الكُتّاب والمنتجين والمصورين والمدونين هم الأكثر تأثيراً هذه الأيام، فهم مهرة في إيجاز الكلمات والتقاط الصور الاحترافية، ومبدعون في اختزال أفكارهم وإنتاجها في فيديوهات ذات تأثير منقطع النظير تبهر أعين الناظرين والمشاهدين، هذا الإبداع الذي يميّزهم عن باقي منتجي المعلومات ليعطوا اللب وزبدة القول للقارئ والمشاهد الكريم من غير إسهاب قد يجعل المعلومة التي يقدمونها غير مملةً في نهاية المطاف.
الآخرون هم فئة تكتب وتنشر لأن الفضاء الإلكتروني يستوعب الجميع بغض النظر عن جودة الإنتاج المعلوماتي، لكن أصحاب الأقلام والأفكار المبدعة هم المستمرون الراسخون في عقولنا نلاحق ظل أقلامهم وكاميراتهم أينما حلوا ورحلوا.
ما أحوجنا لإتقان الكتابة والإخراج والتدريب والتصوير وكل فنون العالم الرقمي، بداية من حسن اختيار العناوين واحتراف فن التأكد من صحة المعلومة وفن الاختصار حتى لا نكن ضحية لاستهلاك أقلامنا في الكتابة وكاميراتنا في التصوير والإنتاج المرئي وأوقاتنا في النسخ واللصق من غير أن يكون هناك تأثيرٌ واضحٌ على المتلقّي الذي أرهقت ذاكرته طيف المعلومات الرقمية في عصر جنون التكنولوجيا.
المصدر: مدونات الجزيرة.