إن للوطن منزلة عزيزةً في أي نفس، ولحبِّه بقعة من الفؤاد ليست لشيء آخر مهما غلا وعزَّ، ولأحداثه وذكراه ثبات لا تطاله يد النسيان، ومن أجل هذا فهو من صور الإيمان؛ ولهذا هو أغلى من كل الأثمان، ولهذا فإن الوطن يعني الإنسان.
والوطن كلمة لها معنيانِ؛ أحدهما ذو معنى محدود وضيق، والآخر ذو معنى واسع وكبير؛ فالأول هو الإقليم من الأرض الذي اتَّخذته مجموعة من الناس موضعًا للإقامة والسكن والعيش المشترك، والثاني هو كل مكان من هذه الأرض فيه أخ مسلم يشاركك الوصف والنسبة والدين، على ما قال الشاعر:
والوطن له اعتبار في خير الأديان، ومِن أجله سنَّ ركنًا من أعظم الأركان، وهو الجهاد في سبيل الله؛ فالدفاع عن الوطن والذَّود عن حماه يعكس إيمانًا بالله، وحبًّا بالوطن، وشغفًا به، وذوبانًا في تضاريسه وشِعابه ووديانه وهضابه وسهوله ووهاده.
والقرآن الكريم أباح التعلُّق به والتمسك بأهدابه؛ ففي قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴾ [النساء: 66]، تسوية بين القتل والخروج من الأوطان.
وقال تعالى أيضًا: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 246]، فجعل القتال ثأرًا للجلاء، وجِلاد الأعداء انتقامًا للتهجير من الديار.
ونبينا عليه الصلاة والسلام أحبَّ وطنَه وشغف به، واستغرب حينما أخبره وَرَقةُ بن نَوْفَل أنه سيُخرِجه قومُه من وطنه، فقال صلى الله عليه وسلم: ((أَوَمُخْرِجيَّ هم؟!))، فهو لا يستغرب ردهم لدعوته ورفضهم لرسالته، ولكنه يعجب أن يتمادوا في ذلك إلى درجة أن يخرجوه من وطنه، ويمارسوا عليه هذا النوع من التعذيب النفسي والجسدي والروحي، فطالَما تعلَّقت روحه بشِعاب مكة، ولطالما طوفت بين سككها وضواحيها؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام مخاطبًا الدار التي أحبَّ، والبلد التي هامت بها روحه وأُنشِزت فيها عظامُه، ونبت فيها لحمه: ((علمتُ أنك خير أرض الله، وأحب الأرض إلى الله عز وجل، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت))، وباح بهذا الحب في المدينةِ، حينما أصابت الحمى أصحابه فاشتكى أبو بكر، فكان إذا أخذته الحمى يقول:
اللهم العَنْ عُتبة وشيبة وأميَّة بن خلف، كما أخرجونا من مكة، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقُوا، قال: ((اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكةَ أو أشد، اللهم صحِّحها وبارِك لنا في صاعها ومُدِّها، وانقل حُمَاها إلى الجُحفة))، وكان المولود يولد بالجحفة، فما يبلغ الحُلُم حتى تصرعه الحمى.
وروى ابن الجوزي بسنده عن أبي بكر الهذلي، عن رجال من قومِه: أن أصيلًا الهُذَلي قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، فقال: ((يا أصيل، كيف تركت مكة؟))، قال: يا رسول الله، تركتُها وقد ابيضَّت بطحاؤها، واخضرت مسلاتها، يعني: شعابها، وأمشر سلمها، والإمشار: ثمرٌ له حمرة، وأعذق إذخرها، والإعذاق: اجتماع أصوله، وأحجن ثمامها، والإحجان: تعقفه، فقال: ((يا أصيل، دع القلوب تقر، لا تشوقهم إلى مكة)).
يقول الجاحظ في رسائله: “ومِن أصدق الشواهد في حب الوطن أن يوسف عليه السلام لَمَّا أدركته الوفاة أوصى أن تحمل رمته إلى موضع مقابر أبيه وجده يعقوب وإسحاق وإبراهيم عليهم السلام، ورُوِي لنا أن أهل مصر منعوا أولياء يوسف مِن حمله، فلما بعث الله موسى عليه السلام وأهلَك على يدَيْه فرعون وغيره من الأمم، أمره أن يحمل رمته إلى تربة يعقوب بالشام، وقبره علم بأرض بيت المقدس بقرية تسمى حسامي، وكذلك يعقوب مات بمصر فحملت رمته إلى إيلياء، قرية بيت المقدس، وهناك قبر إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام”؛ انتهى كلام الجاحظ.
وقديمًا كانت العربُ إذا سافَرَتْ حملَتْ معها من تربة بلدها تستشفي به عند مرض يعرض، وذكروا أن إسفنديارد اعتلَّ في بعض غزواته، فقيل له: ما تشتهي؟ فقال: شمة من تربة بلخ، وشربة من ماء واديها، واعتل سابور ذو الأكتاف بالروم، وكان مأسورًا بها، وكانت بنت ملكهم قد عشِقَتْه، فقالت له: ما تشتهي؟ فقال: شربة من ماء دجلة، وشميمًا من تراب إصطخر، فغابت عنه أيامًا، ثم أتَتْه بماء من الفرات، وقبضة من شاطئه، وقالت: هذا من دجلة، وهذه تربة أرضك، فشرب بالوهم، واشتم من تلك التربة، فنقه مِن علته، فلما جاء الإسلام أبان عن صحة ذلك الفعل، وترك عليه لمسته الربانية، فدلَّنا نبينا عليه الصلاة والسلام من ذلك على ترياق عجيب ودواء مجرب، ذي صلة بالوطن وتراب الوطن وهواء الوطن.
فعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول للمريض: ((بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يُشفَى سقيمنا، بإذن ربنا))؛ رواه البخاري.
وتعليلُ هذا الأمر العلمي – على ما أراه – أن هذا الجسم الذي يحتويك إنما دخل في تكوينه الهواء الذي تتنشقه في هذا البلد، وسرى فيه الماء الذي يجري في هذا البلد، وخالطه التراب الذي أنبت طعامك وشرابك، فصار بالنسبةِ لجسمك أحدَ الأخلاط التي يعرفها ولا ينكرها، ويقبلها ولا يرفضها، ويستدعيها ولا يصبر عنها، فإذا فارقه مدةً اضطرب الجسم وأنكر ما جد عليه من هواء وتراب، وطعام وشراب، ولربما مرِض وهزل وسقم حتى يعاد إلى أصل تلك الأجواء التي كان فيها، وهو التراب.
وحب الوطن فطرة يُفطَر عليه الإنسان، وخلة يجبل عليها ويُعجَن بها، وطبيعة تولد معه وتوجد في البدن ولا تخرج إلا إن أدرج في الكفن، يقول ابن الجوزي: وفطرة الرجل معجونة بحب الوطن، ثم إن الإبل تحن إلى أوطانها، والطير إلى أوكارها.
وعن علي كرم الله وجهه: عمرت الدنيا بحب الأوطان.
وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قال: ما عالجتُ شيئًا أشد من منازعة النفس للوطن.
وقال عبدالملك بن قُرَيْبٍ الأصمعي: سمعتُ أعرابيًّا يقول: إذا أردتَ أن تعرف الرجل فانظر كيف تَحبُّبُه إلى أوطانه، وتشوُّقُه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه.
وكان بعض الملوك قد انتقل عن وطنه، فنزل ديارًا أعمر من دياره وأخصب، ودانت له الممالك، ثم كان إذا ذكر الوطن يحن حنين الإبل إلى الأوطانِ.
وحب الوطن يقلل الكثير، ويكثر القليل، ويزهد في النعيم، ويرغب في أدنى خصائصه ومزاياه، كلنا يذكر ميسون بنت بحدل، أم يزيد بن معاوية، التي جاء بها معاوية من البدو وأسكنها فاره قصوره، وأقامها في عزيز نعيمه، ولكن كل ذلك لم يطرف عينها، ولم يصرف قلبها عن الوطن، وكانت تبكي الليالي الطوال، وتتغنى بكوخها الصغير هناك، وتحن إلى قط ألفته، وجارة صادقتها، وخادمة اعتادت الجلوس معها.
يتحدَّث ياقوت الحموي – في كتابه الشهير معجم البلدان – عن بلدٍ اسمها سيراف، وينسب إليها الإمام السيرافي النَّحْوي، فيقول: ولقد رأيتُها وليس بها قوم إلا صعاليك، ما أوجب لهم المقام بها إلا حب الوطن.
ومثله قال القزويني – في آثار البلاد وأخبار العباد – عن الرصافة المعروفة: ومن عجيب هذه البلدة أن ليس بها زرع ولا ضرع ولا ماء، ولا أمن ولا تجارة، ولا صنعة مرغوبة! وأهلها يسكنونها، ولولا حب الوطن لخربت.
ويقول كامل الغزي – في كتابه نهر الذهب في تاريخ حلب: على أن لي الأمل الوطيد، أن يتلقى عشاق التاريخ كتابي هذا برحب صدر، ويقبل عليه نصراء العلم وأعوان أهله إقبالًا يذكر فيشكر، ولا سيما منهم أبناء الوطن العزيز؛ فهم أولى مِن جميع الناس بالإقبال عليه؛ لأنه يخدم وطنهم المحبوب الذي حبه بلا ريب من أقدس واجباتهم، وحكمة ذلك أن محبة الشيء تبعث على حفظه وصيانته، وجر النفع إليه ودفع الضرر عنه، وهي مقاصد لا تكون إلا بعد معرفته والاطلاع على محاسنه؛ إذ محبة المجهول غير معقولة، بل قد يكون الجهل بالشيء مَدعاةً إلى بغضه وكراهيته، على حد قول القائل: المرء عدو لِما جهل.
ويتابع الغزي، فيقول: وإني لأعجب من طلاب العلوم العمرانية العصرية من أهل بلادنا إذا سألت أحدهم عن شأنٍ من شؤون الممالك الغربية، أجابك عن سؤالك بما يبل الغليل، ويشفي العليل، وإذا سألتَه عن أقل شأن من شؤون وطنه، أجابك عن سؤالك بالسكوت أو بقوله: لا علم لي بما تسألني عنه، ومعلوم أن الواجب على ساكن الدار أن يعلم أولًا حقيقة داره، وما اشتملت عليه من المحاسن والمساوئ، ليعدَّ لكل معنى عدته، ويأخذ لكل شأن من شؤونها أُهْبَته، ثم يتوسع بالعلم فيعلم حقيقة دار جاره، وما حَوَتْه من المحاسن والمساوئ، استعدادًا لطارئ يُحوِجه إلى أن يكون بها عالِمًا، وبشؤونها عارفًا”؛ انتهى كلامه رحمه الله.
وحب الوطن كان دافعًا للبعض إلى خدمة العلم، ورفد المكتبة الإسلامية بأروع الكتب وأنفع المصنفات وأجمل التواليف؛ فكتاب الإحاطة في أخبار غرناطة للإمام ابن الخطيب، كان الدافع إليه حبه لغرناطة، وقد ذكر في المقدمة السبب الداعي إلى تأليفه الكتابَ، وهو أن بعض المصنفين أفرد لوطنه تاريخًا؛ كتاريخ مدينة بخارى لمحمد بن أحمد بن سليمان الفخار، وتاريخ بغداد للخطيب أبي بكر أحمد بن علي البغدادي، وتاريخ دمشق لأبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر، وتاريخ مصر لعبدالرحمن بن أحمد بن نواس، وتاريخ مالقة لأبي عبدالله بن عسكر، فداخلته عصبية حب الوطن، فأقدم على كتابة تاريخ لوطنه غرناطة، قدَّم فيه صورة شاملة عن كل ما يتعلق بمدينة غرناطة من أوصاف وأخبار، فذكر مُرُوجَها وجبالها وأنهارها، وتغنَّى بها.
والجاحظ – وقد عُرِف بسرد التحف من الأقوال والفرائد المنثورة – يسوق لنا نتفًا رائعة حول الوطن وتجذر حبه في الإنسان، فيقول:
“قيل لبعض الأعراب: ما الغبطة؟ قال: الكفاية مع لزوم الأوطان، والجلوس مع الإخوان، قيل: فما الذلة؟ قال: التنقل في البلدان، والتنحي عن الأوطان، وقيل لأعرابي: كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار وانتعل كل شيء ظله؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلًا فيرفضُّ عرقًا كأنه الجُمَان، ثم ينصبُ عصاه ويلقي عليها كساءه، وتقبل عليه الرياح من كل جانب فكأنه في إيوان كسرى”.
الوطنية في الإسلام
الوطنية نسبة إلى الوطن، وهي وصف يطلق على كل مَن أحب وطنه، وأخلص له، وسعى في سبيل بقائه ونمائه وتطوُّره، فمِن هنا يجوز إطلاقه على كل مَن اتَّصف بما قلناه، ولا غضاضة في ذلك ولا حرج، بل قد يكون في وصف الرجل به ندب للآخرين أن يقتدوا به ويكونوا مثله في المسارعة إلى حفظ الوطن في قلوبهم وعيونهم وأيديهم.
أما دعوى أنها من الجاهلية، أو أنها من دعوى الجاهلية، فذلك يصح فيما إذا دعت الوطنية إلى تفريق المسلمين، وبث الشقاق والنزاع فيما بينهم، أما إذا أفهمت معنى جميلًا هو حب الوطن، والإعلاء من شأنه، والسمو به، فذاك مطلوب ومرغوب، ومشجع عليه ومحبوب، والله أعلم.
من صور حب الوطن
• أن تحترمَ قانون البلد الذي أنت فيه وأنت منه.
• أن تصون أرضَه وسماءه، وترابه وماءه، ومنافعه ومرافقه.
• أن تردَّ له الدَّين الذي له عليك، والفضل الذي له في رقبتك، فتُقدِّم له أعمالًا جليلة، وتنتج له نتاجًا صالحًا ونافعًا وكبيرًا.
• أن تحبَّ أهلك وإخوانك من أهل البلد؛ فهم يشاركونك في الانتفاع من خيرات هذا الوطن، وهم يؤنسونك بالإقامة فيه معك، فهم جزء من الوطن، ومِن احترام الكل احترام الجزء.
• التكافل والتضامن بين أفراد وجماعات الوطن.
• نعمة الوطن مِن النعم التي تستحق الشكر من المتنعمين، ومن الآخرين تستوجب الصبر.
• رغم أننا نُعلي من شأن غريزة حب الأوطان، فإننا نمنعُ أن تكون تلك المحبة مساوية لحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو مؤثرة عليهما على ما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 24].
أمثال في الوطن
• الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة.
• عسرُك في وطنك أطيب مِن يسرك في غربتك، وإذا أخلقك الوطن جددك الظعن.
• لا تجزع لفراق الوطن مع لقاء الرغبة؛ فإنك إذا أعسرت أنكرك عارفوك، وإذا أيسرت عرفك منكروك.
• ترك الوطن أحد السِّباءين؛ السباء بالكسر والمد: الأَسْر، والسِّباءان هما الأسر والسفر.
• يا غريبًا كن أديبًا.
المصدر: موقع “الألوكة”