الفكرة الصحيحة هي القاعدة التي يقوم عليها المجتمع الحي، والولاء الشامل لهذه الفكرة هو الأساس الذي تقوم عليه شبكة العلاقات الاجتماعية بين أفراد ذلك المجتمع، فإذا انهارت الفكرة الصحيحة، وقامت شبكة العلاقات الاجتماعية بين الأفراد طبقًا لمحاور الولاء الفردي والعشائري والإقليمي، دار الصراع في داخل المجتمع نفسه ومزقه إلى شيع يذيق بعضها بأس بعض.. ومن ثم ضعف المجتمع في الداخل، وفقد المناعة في الخارج، بل وتحول إلى مجتمع ميت يطمع فيه الآخرون وتتداعى عليه الأمم.
ولقد شهد تاريخ الأمة الإسلامية هذين النوعين من المجتمعات:
فأما المجتمع “الحي” فقد رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، واستطاع بحيويته وفاعليته أن يطرق أبواب أوروبا غربًا، ويقتحم الشرق حتى أقصاه! وفي كل هذه البلاد، استطاع الإسلام بمجتمعه “الحي” أن يُذيب الحضارات الأخرى ويصبغها بالصبغة الإسلامية، لينشئ من مجتمعاتها “أمة” قوية تقوم على تحقيق العدل الرباني في واقع الأرض.
وحين قصّر المسلمون في تنفيذ أمر ربهم، وانهارت وحدة العقيدة في الحياة الفكرية الإسلامية، انهار مفهوم الأمة الإسلامية وحلت محله مفاهيم العصبية والإقليمية والعشائرية والمذهبية، حتى إن العصبية أصبحت تفرق بين أحياء المدينة الواحدة!! واختفت الموازين الإسلامية وسيطرت الأهواء والشهوات. ولقد أثر ذلك كله في ميادين الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية فأفسدها وأضعف مقومات المجتمع، بل وحوله إلى مجتمع (ميّت) وأمة ميتة تتداعى عليها الأمم من كل مكان لتعلن نبأ موتها وتقوم بمهمة الدفن!
وقد تحدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مراحل صحة الأمة الإسلامية ومرضها وموتها فقال: “إن هذا الأمر بدأ رحمة ونبوة، ثم يكون رحمة وخلافة، ثم كائن ملكًا عضوضًا، ثم كائن عتوًا وجبرية وفسادًا في الأرض، يستحلون الحرير والفروج والخمور، ويرزقون على ذلك وينصرون، حتى يلقوا الله عز وجل”.
ولا شك أنه لا خلاص للأمة الإسلامية من واقعها الأليم إلا أن تعود إلى الله، فتعبده حق عبادته، وتنشئ على أساس هذه العبادة مجتمعًا حيًا يقوم على المفاهيم الصحيحة وتوجه القيم السليمة والعمل الصالح علاقات أفراده وجماعاته وتحكم سلوكهم ونشاطاتهم.
ولكي ينشأ هذا المجتمع الحي، لا بد من طليعة مؤمنة قادرة على أن توفر للمجتمع الإسلامي تكاملية جهود أفراده، في سبيل تقدم الأمة الإسلامية، بدلًا من إهدارها في الصراعات الإقليمية والاجتماعية.
ولا تستطيع الطليعة المؤمنة القيام بدورها في إحياء المجتمع الإسلامي، إلا إذا شكّلت في نفسها وفي واقعها (نواة) هذا المجتمع في صورة “أفراد مسلمين خاضعين لتصورات وقيم ومفاهيم ومشاعر وتقاليد وعادات المجتمع الإسلامي الحي، وفي ذات الوقت لا بد أن يكون بين أفراد هذه (النواة الاجتماعية) تفاعل وتكامل وتناسق وولاء، وتعاون عضوي، يجعل كل فرد يتحرك للمحافظة على وجود مجتمعه، والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد وجوده في أية صورة من صور التهديد”.
ومثلما تمتص البذرة الحية ما حولها من أغذية، فإن الطليعة المؤمنة -النواة الاجتماعية الحية- تمتص ما حولها من إمكانات الأمة، وتذيبها في بوتقتها، وتوجهها في طريق إحياء الأمة الإسلامية وبناء حضارتها.. فالنواة الاجتماعية التي تتصف بالحياة هي المكوّن الأول لـ (الخلية الحضارية) التي يتكون منها ومن غيرها من الخلايا الجسم الحي للمجتمع الإسلامي، والبناء الحضاري للأمة الإسلامية.
وهكذا هي نشأة المجتمع الإسلامي الحي، تبدأ بنواة اجتماعية صغيرة تتسم بالحيوية والفاعلية والقدرة على الجذب والاستقطاب، وتتحرك هذه النواة في صورة نبتة اجتماعية متماسكة، فتجذب الأفراد الأكثر نشاطًا وتقوى وفداء بين أفراد المجتمع الكبير (الميت) الذي يحمل بين طياته عوامل فنائه من العفن الخلقي والشقاء المعيشي، ولا يملك القدرة على التحدي والمواجهة. فإذا تجمع حول النواة الاجتماعية (صفوة) الفكر والتجارب وخيرة القدرات والإمكانات، تحولت النواة الاجتماعية الصغيرة إلى قوة هائلة تمتلك اتخاذ القرارات الحاسمة، وتمتلك القدرة على تحدي أعدائها، وعندها يتهاوى شيئًا فشيئًا ذلك المجتمع الميت في تيار المجتمع الإسلامي الحي، ويكون الانبعاث الإسلامي.
وهذا المنهاج لنشأة المجتمع الإسلامي، وإحياء الأمة الإسلامية يفرض واجبات على الحركة الإسلامية، وفي ذات الوقت على الأمة الإسلامية.
فأما الحركة الإسلامية فيفرض عليها منهاج نشأة المجتمع الإسلامي، أن تسعى دائمًا لاختراق الحجب التي يصطنعها أهل الباطل ليحولوا بينها وبين جماهير الأمة، كما تسعى لتوعية تلك الجماهير برسالتها في التغيير.
ولا بد للحركة الإسلامية أيضًا أن تُثري أيديولوجيتها بمزيد من الوعي والدراسة المضنية للشرع والواقع بحيث تفرز هياكلها وكوادرها من الطلائع القادرة على استيعاب طاقات الأمة وحشدها للوصول إلى الأهداف الإسلامية.
ولا بد للحركة الإسلامية أن تُربي أفرادها على أنه “ينبغي أن يتفوق (الواجب على الحق) حتى تستطيع الحركة الإسلامية أن تنمو وتصعد وتتطور، وحتى يكون لديها (فائض جهد) من هذا الواجب الذي يمثل أمارة التقدم الحضاري في كل طليعة تشق طريقها نحو إحياء الأمة”.
ولا بد للحركة الإسلامية قبل ذلك وبعده أن تحتوي الممارسات السطحية والهامشية وتُحجم التيارات الانهزامية والسلبية في الأمة، لتبدأ مسيرة الحركة الإسلامية الطليعية التي تتبنى الانفتاح وليس الانغلاق، وتنوع مصادر التعلم وليس الاحتكام إلى فكر شخص معين أو تيار معين، والولاء العام للأمة الإسلامية وليس الولاء الحزبي الضيق للجماعة أو الحزب، والدعوة إلى الائتلاف وليس السقوط في شرك الفرقة والتجزئة.
مقتضيات المجتمع المسلم
وأما الأمة الإسلامية فإن منهاج نشأة المجتمع الإسلامي يفرض عليها أن تضع الطلائع المؤمنة فيها في أحصن المواقع، لتقوم هذه الطلائع بدورها المرتقب في إحياء المجتمع الإسلامي، وحمل رسالة الأمة الإسلامية لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
كما لا بد للأمة الإسلامية في الوقت ذاته أن تدرك أن الطلائع المؤمنة لا يمكن أن تقوم بدورها إلا إذا كانت تستند إلى الأمة الواعية المتسلحة بالبصيرة في حركتها فلا تضطرب ولا تزل، ولذلك فلا بد «أن يكف أفراد الأمة عن ترديد أنشودة العجز الخالدة (ما يطلع بأيدينا شيء)!! تلك الأنشودة التي تمثل حاجزًا سحريًا يشل المسلم ويمنعه من تأدية واجبه المستطاع، وممارسة عمله بطريقة تدفعه إلى النمو في كل يوم… بل على كل فرد في الأمة أن يدرك أن عمل المستطاع اليوم يجعل ما ليس مستطاعًا اليوم مستطاعًا في المستقبل..
فالإنسان إذا ملأ يومه بالعمل بما في وسعه فإن غده سيعطيه وسعًا جديدًا فيصير غدًا مستطيعًا لما لم يكن يستطيعه اليوم» فإذا لم يكن باستطاعة أفراد الأمة تغيير واقعها اليوم، فلا أقل من أن يتوارثوا مشعل التغيير من خلال تجمعاتهم وخلاياهم الحضارية، فيقوموا ببذر البذور الطيبة للطلائع المؤمنة التي تبقى في انتظار الظروف المواتية للتغيير.. ثم تخرج من رحم الأمة وتُحدث الانبعاث الإسلامي.
إن العمل الإسلامي ليس حكرًا على الحركات الإسلامية، والمسؤولية عن الإسلام والمسلمين هي مسؤولية كل من شهد ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله على تفاوت في الدرجات بتفاوت الاستعدادات والقدرات، والمواقع والظروف.. ولا يجوز لمسلم أن يُقصّر في النهوض بمسؤوليته على أفضل ما يستطيع، بل الواجب على كل فرد أن يبذل وسعه في سبل الخروج بالأمة الإسلامية من أزماتها، وحملها لرسالتها، ودور الطليعة المؤمنة في ذلك هو «تنظيم (وسع) الأمة – أي طاقاتها وقدراتها المعنوية والمادية والبشرية، والتنسيق بينها بما يكفل حشدها وتكاملها – دون هدر أو نقص – لتحقيق أهداف الرسالة» عبر إنشاء المجتمع الحي الذي يدفع بالأمة الإسلامية إلى التقدم والقوة والريادة البشرية.
وبكلمة: لكي تستطيع الأمة الإسلامية حمل رسالتها إلى الإنسانية بالخروج من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، لا بد أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعًا حيًا، يقوم على الفكرة الصحيحة، وتوجه القيم السليمة والعمل الصالح علاقات أفراده وجماعاته وتحكم سلوكهم ونشاطاتهم. ولا سبيل إلى نشأة هذا المجتمع الحي إلا أن توجد في الأمة طليعة مؤمنة تمثل النواة الاجتماعية الحية للمجتمع الإسلامي المنشود، فإذا وجدت هذه النواة، فإنها لا تلبث بحيويتها ونشاطها أن تكبر حتى تحطم الطغاة وتفرض نفسها على الساحة الاجتماعية للأمة، وتكون هذه هي بداية الانبعاث الإسلامي. ومن هنا فإن قيادة الطليعة المؤمنة للأمة الإسلامية أمر تشترطه أسس التغيير، وتستدعيه متطلبات التمكين.
المصدر: المجلس العلمي.