في تركيا دعوة للاستفتاء على تعديلات دستورية، تحول النظام السياسي هناك من نظام برلماني إلى نظام جمهوري، بحيث تكون السلطة التنفيذية عند رئيس الجمهورية وليس رئيس الوزراء، مثل النظام السياسي الأمريكي، وهذه النقطة كانت مثارا للجدل في مصر عند إعداد الدستور، سواء في فترة مرسي أو فترة السيسي / عدلي، وكان الرأي الغالب أن يكون النظام رئاسيا لأنه ضمانة لقوة الدولة وبعدها عن التمزقات التي تسببها حكومات برلمانية ائتلافية غالبا ما تكون ضعيفة، بينما كان هناك رأي آخر يرى أن ميراث الاستبداد يستدعي أن تكون السلطة التنفيذية منبثقة عن البرلمان ورئيس الوزراء هو رأس السلطة التنفيذية، حتى نقطع الطريق على تغول منصب الرئاسة وانفراده بكل شيء.
هذه النقطة هي البند الأكثر إثارة للجدل في التعديلات التركية الجديدة، لكن هناك أكثر من خمسة عشر تعديلا دستوريا آخر يصب في صالح تدعيم مدنية الدولة وتعزيز الديمقراطية فيها، مثل إلغاء المحاكم العسكرية بجميع درجاتها وحظر إنشاء أي محاكم عسكرية مستقبلا إلا لأمور تأديبية داخل الجيش، ومثل تقليل سن الترشح لعضوية البرلمان بحيث تبدأ من 18 سنة لتعزيز حضور الشباب في البرلمان والمؤسسات ومثل أن تكون انتخابات رئيس الجمهورية مع الانتخابات البرلمانية في يوم واحد، ومثل تعزيز سلطات البرلمان وصلاحياته في الرقابة والتفتيش والحصول على معلومات ومنح البرلمان حق فتح التحقيق مع رئيس الجمهورية ومنع الرئيس من حل البرلمان في هذه الحالة، وقد مر النقاش حول هذه التعديلات بمراحل عديدة، منها الحوار المجتمعي الواسع عبر وسائل الإعلام المختلفة، ثم الحوار العصبي والعنيف داخل البرلمان، حيث تمت إجازته في النهاية للعرض في استفتاء شعبي الشهر المقبل ليقول الشعب التركي كلمته فيه، ونشطت جهود سياسية وإعلامية ضخمة في تركيا من الطرفين، المؤيد والمعارض، للتعديلات الدستورية، ووصلت الأمور إلى تراشق عنيف بالاتهامات والتشويه حتى في رسوم الكاريكاتير، حيث هناك ميراث للحرية الإعلامية يصعب تطويعه بسهولة رغم قرارات التوقيف الأخيرة بحق عدد من الإعلاميين على خلفية الانقلاب العسكري الفاشل.
من البديهي أن الاستفتاء يخص الشعب التركي والدولة التركية والمواطن التركي، لذلك كان مثيرا للدهشة اقتحام أكثر من عاصمة أوربية للجدل والنقاش حول الاستفتاء الدستوري، ووصلت الأمور إلى مستوى من العصبية الشديدة، ليس فقط في فسح المجال أمام نشطاء ومعارضين وحتى منظمات تركية متهمة بالإرهاب لكي تعقد ندوات وفعاليات شعبية في ألمانيا وهولندا والنمسا ضد الحكومة التركية وضد الاستفتاء، بل وأن تفرد صحف وقنوات فضائية رسمية في تلك العواصم مساحات للنشر باللغة التركية تخاطب الجاليات التركية الضخمة هناك لتقنعها برفض التعديلات الدستورية والتصويت عليها بلا، وأكثر من ذلك عندما قام حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا بإرسال بعض كوادره من الوزراء لعقد ندوات ومقابلات مع الجالية التركية في تلك العواصم لتوضيح وجهة نظرهم ودعوتهم للموافقة على الاستفتاء تم منعهم رسميا، وفي هولندا رفضوا هبوط طائرة وزير الخارجية التركية شاويش أوغلو، وهو موقف خطير جدا في الديبلوماسية بشكل عام، ويصعب تصور أن تفعله دولة حتى في العالم الثالث، وكان أردوغان محقا عندما وصف تصرف هولندا بأنه سلوك “جمهورية موز”، وعندما توجهت وزيرة تركية بسيارتها من ألمانيا إلى هولندا استوقفوها على الحدود وقامت الشرطة الهولندية باحتجازها ومنعوها حتى من الوصول إلى القنصيلة التركية في المدينة، هذه هيستريا حقيقية يصعب تصور دوافعها، كما تطرح تساؤلات كثيرة عن أسباب تورط العواصم الأوربية في الاستفتاء التركي على هذا النحو، لقد بدا وكأن الاستفتاء هو موجه للشعب الهولندي أو الألماني وليس للشعب التركي .
تستطيع أن تنتقد إجراءات تركية قاسية جرت في أعقاب الانقلاب العسكري، كما يمكنك تفهمها أيضا للحدث الاستثنائي، ولكن عندما تقارن الديمقراطية التركية وأوضاع الحريات والمجتمع المدني والتعددية والتنوع بمثيله في عواصم عربية وشرق أوسطية أخرى، فلا يمكنك إلا أن تعترف بالفارق الكبير، ومع ذلك تفاجأ بحنان وتفهم أوربي واضح تجاه الزعامات العربية العسكرية أو التي لا يمكن نسبتها لديمقراطية من الأساس، بينما يصبون غضبهم العنيف على أردوغان والحكومة التركية، وهو ما يؤكد على أن القلق من تركيا هو أمر لا يتصل بديمقراطية ولا حقوق إنسان ولا مصالح الشعب التركي نفسه، بقدر ما يتصل بنزعة أوربية تنظر إلى العالم الإسلامي باعتباره عالما ثالثا أو تابعا أو ذيلا، مجرد سوق، وأن الحاكم المطلوب هناك هو “الخفير” الذي يحرس المصالح الغربية، مقابل دعمه وحماية كرسيه، ثم يفعل بعد ذلك ما يشاء بشعبه حتى لو أحرقه ودمره ومزقه وحوله إلى ملايين مشردة في أنحاء الدنيا كما فعل بشار الأسد، فهذه هي النماذج التي يحبذونها للحكم في العالم العربي والعالم الثالث، ويفزعون أن تكون هناك في العالم الإسلامي والعربي دول قوية تقوم على مؤسسية وديمقراطية سياسية، القرار فيها للشعب بأي درجة من الدرجات، وحيث يكون الحاكم فيها مدينا بكرسيه لمواطنيه فقط، وليس مدينا للقوى الخارجية، وبالتالي يعمل لصالح مواطنيه فقط، وليس لصالح القوى الخارجية، هذه النوعية يبدو أنها تمثل خطرا استراتيجيا في المنظور الغربي.
أردوغان أدار تلك المعركة باحتراف سياسي، ومن الواضح أن تصعيده محسوب، وقد ربح من التصعيد بكل تأكيد، وهذه هي السياسة، ويساعده في ذلك إرث أوربي يكره تركيا، حتى من قبل أردوغان، وحرم الشعب التركي من الدخول في الاتحاد الأوربي لعشرات السنين، رغم أنه قبل جزر صغيرة مثل مالطا وقبرص، ولكن الذي لا صلة له بسياسة ولا منطق ولا احتراف هو الموقف الأوربي الذي فجر الأزمة من الأساس، والذي حشر نفسه في استفتاء داخلي يخص الشعب التركي، وقرر خوض المعركة ضد أردوغان وحزب العدالة والتنمية التركي كما لو أن الحكومات في ألمانيا وهولندا والنمسا هي أحزاب تركية، هذا تطرف لا يصدق في جنونه وغرابته .
—-
* المصدر: المصريون.