مما لا شك فيه أنَّ حياة كل منا في الدنيا محدودة، ومهما طالت فإنَّ من ورائها الموت، ومن بعده الحسابُ والجزاء… فإمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النار والعياذ بالله.
واللهُ تعالى لم يأت بنا إلى هذه الحياة عبثاً، بل اختارنا على المخلوقات الأخرى، وسخّر لنا الكون، ويسّر لنا الحياة… كلُّ ذلك لغايٍة محددةٍ، فإذا انتهت المدة التي قدّرها لنا: جمعنا يوم القيامة ليجزيَ كلَّ إنسان بما عمل، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
هذه الغاية التي خلقنا الله لها تعني:
أن نرضى به ربا؛ فنثقَ به، ونعتمدَ عليه.
وأن نشعرَ بفضله علينا؛ فنحبَّه، ونشكرَه على نِعمه.
وأن نرى قدرته وعزّته؛ فيعظمَ قدرُه في قلوبنا، ونطيَعه ونتقيه.
وهذا ما يسمى إجمالا بـ “العبادة” .
وهي ليست أعمالاً بدنية تتمثل في العبادات المعروفة فقط، بل هي في الأصل أعمالٌ قلبيةٌ كالامتنان، والمحبة، والثقة، والمهابة… إلخ.
ومنها أيضاً: مجاهدة النفس؛ لأنَّها لا تحبُّ الخضوع لأحد، ولا تحبُّ الاعتراف لأحد بفضل عليها، بل العكس تحبُّ الشعور بالاستغناء، وتحبُّ الثمرة العاجلة وإن كانت قليلة، وتحبُّ اتباع الهوى، وتأبى الانقياد والسمع والطاعة.
التربية الدينيَّة:
كما أنَّ نمو الإنسان مع الزمن لا يكفي ليكون رياضيّاً فتيّاً، ولا عالماً ذكياً، بل يحتاج إلى تربية خاصة لتصل به إلى المطلوب، فهو كذلك يحتاج – بشدة – إلى تربية خاصة في اتجاه تحقيق العبودية لله رب العالمين… قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، فهو سبحانه جعل لنا السمع والأبصار والأفئدة لتكون بمثابة الأدوات التي نصل من خلالها إلى التحقق بعبودية الشكر.
فإذا كانت أهمية العمل التربوي تتحدد بقدر أهمية الغاية التي يوصل إليها، فما هي أهمية التربية الدينية؟!
إنَّها التربية التي تحقق لنا بإذن الله الغاية التي خلقنا الله لها..
إنَها التربية التي تبلغنا شرف العبودية لله رب العالمين..
إنَها التربية التي تقربنا إلى الجنة، وتبعدنا عن النار..
لقد نَمَتْ شخصياتنا في اتجاه كثير من شؤون الحياة، ونمت كذلك في اتجاه العبودية لله رب العالمين بقدرٍ قليلٍ أو كثيرٍ… لكن الذي نرغب فيه الآن أن ننتبه لحركة هذا النمو، وألا نتركها تمضي هكذا مع الزمن، فلقد علمنا أنَّ مثل هذا لا يؤدي إلى النتائج المرجوة، بل نريد أن نمارس مع أنفسنا “تربية” منهجية ترتقي بنا بإذن الله في سبيل تحسين صلتنا به سبحانه.. لعله يغفر لنا ويرحمنا ويعفو عنا ويرزقنا مرضاته وجنته.. إنه هو البر الرحيم.
شمول مفهوم التربية:
كل هذا الاهتمام بالتربية الدينية لا يعني هضم أو إهمال الصور الأخرى للتربية التي تهدف إلى تحقيق أهداف دنيوية مختلفة بالعكس؛ فإن من أهداف التربية الدينية تحرير المسلم من التبعيَّة لغيره من البشر، وسيادة المسلمين للأرض – لا من أجل السيادة نفسها ولا رفاهية الحياة، وإنما ليقيموا فيها ميزان الله وعدله كما أمرهم سبحانه وتعالى – وهذا يقتضي وجود قدرٍ من الأسباب المادية ليصل المسلمون من خلالها إلى غايتهم بإذن الله، ولكن على أن يتم هذا ضمن الإطار العام للغاية الكبرى من الخلق، لئلا يجد المرء منا أنه ربح دنياه وخسر آخرته والعياذ بالله.
وحين ينجح المسلم في التحقق بالعبودية لله رب العالمين فإن الله عز وجل يكون له عونًا وسنداً ويمدُّه بفضله ويُظهر أمره، وكذلك يجعل لأعماله الدنيوية التي تساعده على نُصرة دينه ثواباً ينفعه به في الآخرة.
من هنا نقول: إننا نهدف إلى تربية شخصيةٍ “متوازنةٍ”، ونسعى إلى أن نراجع ما نشأنا عليه، لنستكمل ونطوِّر ونُحسِّن؛ فإنَّ كل غرسٍ في هذه التُّربة هو خيرٌ لنا، وسنرى ثمرته يوم القيامة إن شاء الله.
المصدر: “مؤسسة ابن خلدون”