البناء المتين الشاهق ارتفع ورسخ بعدد من الخرسانات المسلَّحة، وعلى أسسٍ متينة، والبناء الضعيف المتهالك بُني بلبِنات ضعيفة متهالكة على أسس واهية، أو بلا أسس أصلًا؛ من هنا كانت عناية أرباب المشاريع الكبيرة بتفاصيل البناء الصغيرة.
والحال في بناء الأمم كذلك؛ فالأمة القوية مجموعُ أفرادها في الغالب أقوياء، والعكس صحيح، فـ”لا نستطيع بناء مجتمع أقوى من مجموع أفراده”.
لما كان الفرد هو الخرسانة المسلحة أو اللبنة المتهالكة في بنيان الأمة؛ كان هو المشروع الأول، وهو أيضًا رئيسه ومديره ومنفذه؛ إذ لا أحد ينهض بالمرء مثلُ نهوضه بنفسه بعد توفيق الله، نعم، بناء الفرد يحتاج لأسرٍ مهتمة، ومؤسسات معنيَّة، لكن المؤسسة الأهم في جودة ذلك البناء هي المرء نفسه، وبرهانُ ذلك تجده في صفحات الواقع.
ثم العناية بهذا المشروع من كل فرد ليس ترفًا؛ بل ضرورةٌ، والعاملُ على نفسه في النهوض بها وإن ذاق مرارةَ تعبه وكدِّه – يتنعم غدًا بيانع ثمره، وجني غرسه!
العلم والإيمان أس المشروع الأمتن:
﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11]، بالعلم والإيمان تتحقق الرفعة، والرافع هو الله تعالى، وأنَّى لمن رفعه الله أن يخفض ولو تداعى أهلُ الأرض على خفضه؟!
والسعي في كسبهما، والجلَدُ في تحصيلهما: ديدنُ العاقل الطامح وهِجِّيرَاه؛ “فإن الخير كله – أصله وفصله – منحصر في العلم والإيمان”؛ كما قال شيخ الإسلام.
والمرء متى ثقُل بالعلم والإيمان، بقي – بتوفيق الله – ثابتًا في مهب رياح الفتن، ويكون ثباته بحسب امتلاء كيسه منهما.
بالعلم ينضج الفكر، ويتَّسع الأفق، وتتضح الرؤى، ويكتسب المرء قوة لا يُكسِبُها إلا العلمُ.
هو العضبُ المهنَّدُ ليس ينبو *** تصيب به مَقاتِلَ مَن ضرَبتَا
فتش سير الأعلام – إن شئتَ – وقلِّب صفحات حياتهم، ستبهرك أنوار العلم والعمل وبوارقُ الجد في تلك السير الخالدة.
شمِّر عن ساعد الجد، وارسم لك خطة علمية متينة تراعي فيها البَدء بقواعد العلوم وأصولها؛ “فالحذق في العلم والتفنن فيه والاستيلاء عليه، إنما هو بحصول ملَكة في الإحاطة بمبادئه وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله”؛ كما قال ابن خلدون، وإلا تفعل تكن كالمـنبتِّ الذي لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى؛ فإن “من حُرم الأصول، حُرم الوصول”.
ولا ينتهي الأمر بك برسم الخطة وجدولة الأعمال، بل من هنا تصدِّق الأفعالُ الأقوالَ، ومن هنا يشد المئزر ويقصد العلم على طريق واضح، يقطع على مراحل وزِّعت على الأيام والشهور والأعوام، كلما قطعت منها شوطًا ونلت نصَبًا – ولا بد – ترقَّيت في مراقي العلم، فهوَّن عليك ذلك ما لقيت من نصَبٍ، وما عانيت من تعب، وشيئًا فشيئًا مع الأيام والسنوات تبسق شجرة معارفك، وتجني أنت وغيرك يانع ثمرها.
“قليل من الزمن يخصص كل يوم لشيء معين – قد يغيِّر مجرى الحياة، ويجعلك أقوم مما تتصور، وأرقى مما تتخيل”؛ أحمد أمين.
الحضارة رافد المشروع:
الحضارة الحقيقية ليست الحضارة المادية، بل حضارة الأخلاق، وهي المرادة هنا؛ فبالعمل بأخلاق الإسلام وقِيَمه يرتقي المرء لدرجة سامية، هي أسمى ما يمكن أن يصل إليه البشر.
يقول محمد أسد: “إن أفضلية ثقافة أو حضارة على أخرى لا تقوم على ما لديها من المعرفة العلمية – ولو أن هذا الأمر مرغوب فيه – بل على نشاطها الأخلاقي.. وفي هذا الاتجاه، فإن الإسلام يفوق كلَّ ثقافة أخرى، ولا يحتاج إلا أن نتبع أحكامه لكي نحقق أقصى ما يمكن للبشر تحقيقُه”.
الأخلاق بمفهومها الواسع، وبتطبيقاتها التي لا تنحصر.
وببَدء المرء بامتثال أخلاق الإسلام في مشروعه (بناء نفسه)، يبدأ التغيير الذي يريده لمجتمعه فيها؛ فلا شيء – أعتقد – يسهم في نشر الأخلاق مثلُ امتثالها.
وعلى هامش المحور:
الخطأ في مسيرة هذا المشروع العظيم واردٌ، لا أحد هنا معصوم عنه، وتبقى المهمة بعده بتناوله بدراسة أسبابه، وطرق تلافيه، وتفادي تبعاته، من الخطأ الصغير الدقيق إلى الخطأ الجليل، شاملًا الخطأ القاصر والخطأ المتعدي.
اعتذارنا عن أخطائنا، واعترافنا بالحق الذي جاء على لسان غيرنا – سيما في مطحنة النقاش التي لا ينتصر فيها حقيقةً كلَّ مرة إلا المُثقَلُ بالعلم والأخلاق – بمثل هذه الكلمات: “آسف”، “أعتذر”، “أخطأت”، “أتراجع”، “معك الحق”، تقنيات رافعة للمشروع من وَحَل حظ النفس، إلى التسامي فوقه.
الصعود على أكتاف الآخرين، وتشبع المرء بما لم يعطَ، وانتحاله لجهد غيره أيًّا كان – من معوقات المشروع وكسوته ثوبًا باليًا لا يمكن أن يكون إلا ثوب هوان وصَغار، نسبة الفضل لأهله سيما ثقة، وبرهانُ أمانة، وسُلَّم رفعة، وشرف نفس.
المال بين الضرورة والضرر:
من المهم أن يكون ضمن تخطيطك لمشروعك (بناء نفسك) البحث عن مصدر كسب مشروع، فالمال يحقق الكثير من الغايات الشريفة، لكنه بالتأكيد ليس غاية في ذاته؛ لذا مكانه اليد لا القلب، و(قد أفلح من أسلَمَ، ورُزق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه).
أما إن عكست الصورة وكان المال في القلب لا اليد، فستنقلب تبعًا لذلك كثير من الموازين، ويُفتح الباب على مصراعيه لهوام الرذائل: الشح، والبخل، وفقر النفس – أعني عدم القناعة – وجيش جرار من تلك الهوام الممرضة، رافعةً رايةً خلقة يتكبدها عبارة “المال غاية”.
ثيودر فورتسمان، مدير أكبر الشركات في العالم (IMG) ملياردير غارق في المال، اخترتُه بالذات؛ لأنه اتخم بالثروة المالية، ﴿ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 14]، يقول في حديث له عن الثروة:
“الثروة الحقيقة ليست مادية، الثروة تأتي على هيئة أفكار، قد تختفي الثروة المادية، قد يسلبها منك اللصوص، أو غير ذلك…، لا تسألوني عن كيفية جني الكثير من المال؛ لأني لا أعلم، ولا أعتقد أنه هدف جدير بالاهتمام، بدلًا من ذلك كن على معرفة بالثروة الفكرية، كن صادقًا مع نفسك؛ لأنك لا تملك شيئًا آخر في العالم غير نفسك، فإن خسرتها خسرت كلَّ شيء”.
في مشروعنا النهضوي نحتاج لهذه الرؤية المتوازنة:
• المال ضروري.
• المال محله اليد.
• “أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه”.
• إذا كان في السعي لقدرٍ زائد من المال إجحافٌ بحق تحصيل الثروة الحقيقة ثروة الروح، هنا نقدِّم حق (الثروة الروحية).
• مالي الذي أضيفت له “ياء” الملكية هو المال الذي أُنفقه، أما غيره من المال، فهو أرقام مودعة في الحسابات، في الحديث الصحيح: “يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك يا بن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبِستَ فأبليت، أو تصدَّقت فأمضيت؟”.
ولا يعني هذا ألا يدَّخِر المرء، كلا! لكن هذه القناعة التي ينبغي أن يكون عليها المسلم، وهذه القناعة تساعده في زحزحة المال من قلبه إلى يده.
ختامًا:
بهذه الأركان الأربعة (العلم، والإيمان، والأخلاق، ورؤية واضحة لمكانة المال)، يستوي مشروع بناء النفس على أركان أصيلة، ويحصل التميز فيه بتميز تلك الأركان وجودةِ مبناها، وقلِّب الطرْفَ فيمَن تراهم مشاريع بأنفسهم، ترَ التمايز بينهم تبعًا لتمايز جهودهم المبذولة في البناء، وقبل ذلك توفيق الله لهم.
لم أفصِّل للعمل حديثًا خاصًّا؛ لأنه لازم العلم والإيمان، لازم الأخلاق، لازم الكسب، وعلمٌ لا يحمل صاحبَه على العمل – لا يسمى علمًا أصلًا.
المصدر: موقع “الألوكة”