كم مرَّة سمعنا معلّقاً رياضياً يُقارن بين لاعبين مثل: رونالدو، ومسّي مثلاً؟
أو آخر يُقارن بين قناتين مثل: “الجزيرة” و”العربية”؟
أو بين شركتين مثل: “أبل” و”مايكروسوفت”؟
أو حتى بين نظامين؛ كالرأسمالية والاشتراكية أو الولايات المتحدة وروسيا؟
ومن المقارنة حمي التنافس الميداني على السبق بين الشركات والشبكات، وكم استطاعت واحدة أن تطيح بالأخرى عبر اقتباس ميزاتها وإضافتها إلى ما لديها؛ نظير ما فعل برنامج “الانستجرام” مع “السناب شات”.
ولله المثل الأعلى، حين يقول المؤمن والمؤذن: “الله أكبر”، فليس في الأمر مقارنة، فهو – سبحانه – لا تُضرب له الأمثال، وهو أكبر من أن يُدرك بالحواس، أو أن يُقاس بالناس.
وكل ما دون الله فخاضع للمقارنة، حتى الرسل: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} (253:البقرة)، والملائكة: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء} (1:فاطر).
يتعاطى الإنسان المقارنات بين الأشياء في مجالات الحياة كلها؛ السياسي، والرياضي، والاجتماعي و.. و..
غالباً ما نلجأ لبيان ميزة شيء أو تفوّقه أو نقصه إلى مقارنته بغيره مما يؤكد نسبيّة الأحكام في حالات كثيرة.
اللغات زاخرة بكلمات المقارنة التي نسميها: التفضيل، فهذا حسن، وهذا أحسن، وهذا الأحسن على الإطلاق..
في الدراسات يهتمون بالمقارنة الفقهية أو الدينية أو مقارنة الأنظمة أو الأشخاص أو البرامج.
عند الفشل يلجأ أناس إلى المقارنة ليُثبتوا أنهم وإن أخفقوا إلا أنهم أفضل ممن هو أردأ منهم، بمعنى أنهم يعترفون بدرجتهم المتدنية، إلا أنهم لم يصلوا بعد إلى الحضيض، ومن سار على الدرب وصل!
حين يكون بلد عربي في درجة ٢٩٠ ضمن قائمة التنمية أو التعليم فهو يفتخر بأنه لا يزال ضمن القائمة!
نقيض أصحاب الطموح الذين يرفعون رؤوسهم لمن هو أعلى منهم؛ ليؤكدوا أنه ما زال أمامهم حلم جميل ينتظر التحقق، وأفق أسمى، ودرجة أرقى، ولم يصلوا بعدْ إلى مرحلة الكمال..
وهل ثَمّ مرحلة كمال للإنسان؟
كلا؛ ليس ذلك في الحياة الدنيا.
فلو كان ذلك لتوقّف المرء عن التفكير والتحسين والتطوير، وبدأ في التراجع.
وفي التنزيل: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ} (19:الانشقاق)، {لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} (37:المدثر).
ليس من شأن الكائن الإنساني ولا الحياة البشرية الثبات والاستقرار، الحياة دوارة موارة متحركة إما باتجاه الصعود والرقي أو للانحدار والفساد والسقوط.
التدرب على عمل المقارنات المدروسة الإيجابية يسلط الضوء على جوانب خفية وأسرار ومعانٍ وملامح قد تتعذر رؤيتها إلا عبر استحضار نماذج عديدة وطرح الأسئلة حولها.
هذا يختلف عن المقارنة السلبية التي تستخدم للتضليل وخداع الآخرين، وأحياناً خداع النفس وحفزها على فعل الخطأ: {إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا..} (8:يوسف)، أو الجمود على حال باعتبار أنه ليس في الإمكان أحسن مما كان.
أحياناً نصنع من المقارنات سلّمًا نصعد عليه درجة درجة أو ننزل منه درجة درجة…
حين نقرأ الواقع اليوم سياسياً أو أخلاقياً ندرك “خطورة” مقارنة تقنعنا بأننا الأفضل نتيجة موهبة لغوية تجيد فن الإطراء، وتقتل أحلامنا وطموحاتنا باستدعاء تاريخ القبيلة أو تاريخ الأمة.. فمن عجز عن رؤية المستقبل يلتفت للماضي!
وفي الوقت نفسه ندرك “أهمية” مقارنة تجعلنا نعرف الممكن ونسير إليه باعتدال، بدل التِّيه في مثاليات واهمة لا وجود لها إلا في الذهن والخيال.
يمكن للمرء أن يقارن نفسه بالآخرين لا ليُثبت تفوقه، بل ليعرف جوانب قوته، ويكشف جوانب نقصه، ويدري أنه لن يكون محايداً في قضية هو أحد أطرافها!
ويمكن أن يقارن نفسه بنفسه ليدري إلى أين يسير، وهل هو في صعود أو هبوط..
بعض المقارنات نغذيها للصغار مع الحليب حتى يكرهوا ذاك المثال ويكرهوا التمثيل ومعه كل أفعال التفضيل “فلان أشطر منك”!
أحياناً نحتاج السباحة عالياً في الخيال تلك المساحة الهائلة التي تتوه فيها أفعال التفضيل وتتعطل وتصبح بلا قيمة..
الخيال هبة السماء يوم أن تضيق عليك شبابيك المقارنات الأرضية..