مما ابتلينا به هذا الزمان أن المتصدرين لقيادة العالم الآن يتحكمون حتى في المصطلحات والمفاهيم التي نتداولها ونتناقلها ونفكر بها ونجعلها وحدة التحليل وأساس التأويل، فهو احتلال كامل للمفاهيم يفرغها من مضمونها ويوجهها حيثما تبتغي سياسات أصحابها وبما يبرئهم من أي مسؤولية أخلاقية أو سياسية.
لعل من أبرز المصطلحات التي يجري تداولها مصطلح «خط الفقر» الذي يقصدون به الحد الأدنى من مستوى الدخل الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يحصل على حاجياته الإنسانية الأساسية، من مأكل ومشرب وخدمات، بحيث إنه إذا كان دخلٌ تحت هذا الخط (يقدر حالياً بـ1.9 دولار أمريكي) فإنه يكون قد وصل إلى حالة من الفقر المدقع الذي لا يمتلك فيها الإنسان قوت يومه!
وكما هو ملاحظ، فإن تعبير «تحت خط الفقر» أمر لا يعكس بشاعة الحال الذي يعيش فيه هؤلاء المبتلون بهذا البلاء الذي يفقد الإنسان في ظله أمنه وتوازنه النفسي والانفعالي، أو – باختصار – يفقد إنسانيته، ويتحول – غالباً – إلى كائن لا همّ له إلا الطعام والشراب، فلا تسأل حينها عن مدى اهتمامه بالجوانب القيمية والجمالية وغيرها من الأمور التي تعد رفاهية لا يتسع ذهنه للتفكير فيها ناهيك عن محاولة الالتزام والاستمتاع بها.
وحين نعلم أنه وفق الإحصائيات الأخيرة التي يمكن الاطلاع عليها بسهولة في مواقع المنظمات العالمية ذات الاختصاص وغيرها من المواقع ذات المصداقية، فإن ما يقرب من مليار من البشر يعيشون تحت هذا الخط الفاصل بين الإنسان وما دونه من البشر، وأن هناك حوالي 800 مليون إنسان يعانون من الجوع وسوء التغذية، وأن هناك 21 ألف شخص يموتون يومياً بسبب الجوع؛ أي شخص كل أربع ثوان، معظمهم من الأطفال، بينما أعلنت منظمة «اليونيسيف» مؤخراً أن هناك 1.4 مليون من أطفال العالم يتعرضون خلال هذا العام (2017م) لخطر الموت بسبب سوء التغذية الحاد، سندرك حينها مدى عمق الأزمة التي تعاني منها مناطق متفرقة في العالم أجمع.
وقد يظن البعض أن الأزمة تتعلق بندرة الموارد الطبيعية وعدم كفاية ما تنتجه الأراضي الزراعية لكافة البشر، غير أن هذا الظن تكذبه منظمة الأغذية العالمية (الفاو) بنفسها، والتي تؤكد أن العالم ينتج الآن ما يكفيه من غذاء، لكن الكثيرين لا يستطيعون الحصول عليه بسبب فقرهم غالباً. (انظر: تقرير جريدة «الحياة» اللندنية المنشور تحت عنوان «21 ألفاً يموتون يومياً بسبب الجوع» المنشور على موقع الجريدة بتاريخ 30 أكتوبر 2015م).
هذه الحقيقة المرة ينبغي أن نضع في مواجهتها حقائق أخرى بالغة الأهمية، منها مثلاً أن 80% من ثروات العالم يملكها 20% فقط من سكانه، وأن نسبة الإنفاق على التسلح في العالم في العام الماضي (2016م) بلغت حوالي تريليون ونصف تريليون يورو، وأن معظم أسباب المجاعات في العالم ناتجة عن النزاعات المسلحة (وفق تقرير لمنظمة «الفاو»).
تلك الحقائق مجمعة ترشدنا إلى أن الفقر المدقع هو صناعة بشرية؛ أي هو من كسب أيدي البشر، الذين وهبهم الله النعم، وسخر لهم ما في الأرض والسماوات، فإذا بهم يهدرون تلك النعم بدلاً من أن يحسنوا استثمارها لصالح الإنسان، حتى إنهم ينفقون أموالهم على أدوات القتل أكثر مما ينفقونها على متطلبات الحياة، وهو أمر إذا لم يتم تداركه فإن أخطاره سترتد على الأغنياء ولن تقف عند الفقراء وحدهم، الذين باتوا على اطلاع شامل من خلال وسائل الإعلام والتواصل الحديثة على مدى السفه والترف الذي يسود العالم، وقدر انعدام المسؤولية لدى هؤلاء الذين يقودون البشرية إلى الهاوية بمنعهم أبسط ضروريات الحياة عن فقراء العالم الذين يصفونهم وصفاً محايداً بأنهم «يعيشون تحت خط الفقر»!
وقد اعترف البنك الدولي مؤخراً بخطورة هذا الأمر، حين قرر أنه بات من الأهمية بمكان الاهتمام بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية لمنع التطرف العنيف. (انظر: تقرير المرصد الاقتصادي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المنشور على الموقع الإلكتروني للبنك الدولي).
قال ابن حزم الأندلسي في «المحلى»: «إذا مات الرجل جوعاً في بلدٍ اعتُبر أهله قتلة، وأُخذت منهم دية القتيل، وإن للجائع عند الضرورة أن يُقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره، فإن قُتل – أي الجائع – فعلى قاتله القصاص، وإن قُتل المانع لعنه الله لأنه منع حقاً وهو طائفةٌ باغية»، فماذا لو عاد ابن حزم ورأى أن المانعين بدلاً من إغاثة الجوعى يصفونهم بأنهم «تحت خط الفقر» ويشعلون الحروب بينهم لإنعاش تجارتهم بالسلاح؟ ماذا كان يقول؟!