“سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ”. (الإسراء: 1)، نعم، إنها القدس، بوابة الأرض إلى السماء، كما أنها بوّابة السماء إلى الأرض. لقد حظيت هذه المدينة المباركة المقدسة بالحظ الأوفى والأوفر في معجزة الإسراء والمعراج: إليها كان الإسراء، ومنها كان المعراج؛ فالقدس هي المحور، وعليه فمن حقنا أن نتساءل: ما الحكمة الربّانية أن كان الإسراء إلى القدس، وكان المعراج منها؟ ولماذا لم يكن المعراج من مكة المكرمة إلى السماوات العلا مباشرة؟
الجواب من خلال النقاط التالية:
1- إعلان عن إسلامية هذه الديار، حيث فتحت روحياً وإيمانياً بمعجزة الإسراء والمعراج، لأن المعجزات تمثل جزءاً من العقيدة الإسلامية.
2- ربط القدس بمكة المكرمة رباطاً عقدياً وتعبدياً:
فالرباط العقدي يتمثّل بالإسراء، والرباط التعبدي لكون القدس القبلة الأولى، وأن مكة المكرمة قبلة المسلمين الثانية والأخيرة الثابتة، وأنّ شد الرحال بقصد التعبّد يكون إلى المساجد الثلاثة: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى”. متفق عليه عن الصحابي الجليل أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3- ربط القدس بالسماوات العلا من خلال المعراج، والله سبحانه وتعالى يقول: “والنجم إذا هوى، ما ضلّ صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، علّمه شديد القُوى، ذو مرّةٍ فاستوى، وهو بالأفق الأعلى، ثم دنا فتدلى، فكان قاب قوسيْن أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى، ولقد رآه نزلةً أُخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنّةُ المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربّه الكبرى”. سورة النجم الآيات 1-18.
4- ربط السماء بالقدس من خلال أمريْن مهميْن، هما:
الأمر الأول: صلاة الرسول محمد بالأنبياء عليهم السلام إماماً: فقد صلّى رسولنا الأكرم محمد (عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم) في ساحة المسجد الأقصى المبارك، وبالقرب من الصخرة المشرفة، إماما بالأنبياء الذين نزلوا من السماء، ولا نستطيع أن نعرف كيفية صلاة الرسول، قبل أن تشرع الصلاة للمسلمين بشكل تفصيلي، لكن صلاة الأنبياء جميعاً كانت تتضمن الركوع والسجود كما ورد في القرآن الكريم بشكل عام.
إن نزول الأنبياء من السماوات العلا معجزة من المعجزات للدلالة على أن معجزة الإسراء والمعراج لا تمثّل معجزة واحدة، بل تضمنت عدة معجزات، وإن إمامة الرسول محمد بالأنبياء عليهم السلام دليل على أنه خاتمهم وقائدهم، وإن رسالته شاملة لجميع الرسالات، وأنه (عليه الصلاة والسلام) شفيع الأنبياء جميعهم يوم القيامة، كما أنه شفيع للأمة الإسلامية.
الأمر الثاني: مشروعية الصلاة: لقد فُرضت الصلاة على المسلمين في سماء القدس حين المعراج، والمعلوم أن الصلاة هي ركن من أركان الإسلام، بل هي عمود الدين وعماده.
ونظراً لأهمية الصلاة فإن الله عز وجل خاطب نبيه ومصطفاه مباشرة وبلّغه فرضيتها، في حين أن سائر الأركان والتكاليف الشرعية الأخرى شُرعت بواسطة جبريل (عليه السلام). وأن الصلاة واجبة على كل مسلم بالغ عاقل، حتى أنها لم تسقط عن المريض إنما يؤديها بالطريقة التي يستطيع أداءها حسب صحته وقدرته، فالمسلم يصلي قائما فإن لم يستطع فقاعدا فإن لم يستطع فعلى جنب، وهكذا، ويجوز للمريض أن يتيمم إن لم يتمكن من الوضوء.
وأرى أن فريضة الصلاة في سماء القدس، أثناء المعراج، تكريم لهذه المدينة التي حباها الله بالبركات وبالقداسة.
نصوص شرعية:
يحسن في هذا المقام أن أذكر عدداً من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي لها علاقة بموضوعنا مع شيء من التعقيب:
1- قال عز وجل “وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ”. سورة الأنبياء الآية 71. والضمير الغائب في لفظ (ونجيناه) يعود إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، والمراد بالأرض: هي أرض فلسطين، وكانت موضع هجرة إبراهيم ولوط عليهما السلام بعد أن منّ الله عليهما بالنجاة من الأقوام الظالمة.
2- روى الصحابي الجليل البراء بن عازب رضي الله عنه قال: صلينا مع رسول الله نحو بيت المقدس 16 شهراً ثم حرفنا نحو الكعبة”. أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وهذا الحديث النبوي الشريف صريح بأن المسجد الأقصى هو أولى القبلتين.
3- روت الصحابية الجليلة ميمونة بنت سعد رضي الله عنها قالت: قلتُ يا رسول الله، أفتنا في بيت المقدس. قال: “أرض المحشر والمنشر، إئتوه فصلّوا فيه، فإن صلاةً فيه كألف صلاة في غيره.” قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمّل إليه؟ قال: فتهدي له زيتاً يسرج في قناديله، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه”. رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد والبيهقي بإسناد صحيح. وهذا الحديث النبوي الشريف صريح بارتباط مدينة القدس بالعقيدة الإسلامية، لأن المحشر والمنشر جزء من يوم القيامة. ومعنى “أتحمل إليه” أتمكن من الوصول إليه، “فتهدي له زيتا ” كناية عن إعماره والتبرع له. وفي لفظ “يسرج فيه” بدلاً من لفظ ” يسرج في قناديله”.
4- عن الصحابي الجليل ذي الأصابع رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسول الله، إن ابتلينا بعدك بالبقاء أين تأمرنا؟ قال: عليك ببيت المقدس فلعلّه أن ينشأ لك ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون”. أخرجه أحمد والطبراني. وهذا الحديث الشريف يتضمن حثاً على المرابطة والإقامة في بيت المقدس.
5- قال رسول الله “لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرّهم مَنْ خالفهم ولا ما أصابهم من اللأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك. قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: بيت المقدس وأكناف بيت المقدس”. أخرجه أحمد والطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ورجاله ثقات. وهذه بشارة من الرسول محمد عليه السلام للأمة الإسلامية بأنّ الفئة المنصورة هي التي ترابط في بيت المقدس.
6- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره بمئة ألف صلاة، وفي مسجدي ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمئة صلاة”. رواه الطبراني في الكبير والبزار في مسنده. إسناده حسن عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. وهذا حثّ على الصلاة في المساجد الثلاثة بالإضافة إلى زيادة في الثواب.
7- فضل الدفن في الأرض المقدسة: لقد ورد في قصة وفاة موسى عليه السلام حيث قال حين أتاه ملك الموت “ربِّ أمتني في الأرض المقدسة رمية بحجر”. رواه البخاري ومسلم والنسائي عن الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه.
والمعلوم أن موسى عليه السلام لم يدخل أرض فلسطين، وإنما توفي في منطقة مؤاب في الأردن، وعبّر موسى (عليه السلام) عن ذلك بلفظ (رمية بحجر) أي كان قريباً من أرض فلسطين حين حضرته الوفاة.
هذه منزلة القدس في الإسلام، إنها بوابة الأرض إلى السماء، وكذلك هي بوابة السماء إلى الأرض، وأن الله رب العالمين قد حباها بعدة مميزات وبركات ومنحها للمسلمين، جميع المسلمين، في أرجاء المعمورة منذ حادثة الإسراء والمعراج حتى يومنا هذا، وحتى قيام الساعة.
فهلّا تنبّه المسلمون في هذه الأيام لهذه المدينة المباركة المقدسة؟! وهلّا أعطوها العناية اللائقة بها؟! وهلاّ تذكّروها وهي في الأسر؟! وهي تحت وطأة الاحتلال؟! أم هم عنها لاهون غافلون؟!
إننا نخاطب العالم الإسلامي، في كل يوم، لنقول لهم: إن مدينة القدس أمانة في أعناقهم ويتوجب عليهم أن يتحملوا المسؤولية تجاهها.
“إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ”. سورة ق -الآية 37.
المصدر: “الجزيرة نت”.
(*) إمام وخطيب المسجد الأقصى المبارك.