في قديم الزمان، قبل النهضة الحضارية المعاصرة، والقرية الكونية الواحدة، كان الإنسان يركب سفينة ما ويهيم على وجهه في البحر، سائحا مستكشفا، ويشاء الله أن يكتب له الوصول إلى إحدى الجزر التي يقطنها فئام من البشر منذ آلاف السنين، فيصيح فرحا في رفاقه: ها أنا اكتشفت خلقا جديدا، وبشرا مجهولين.! بل وجزيرة معزولة! ولسان حال أهل الجزيرة يقول: من أنت أيها المجهول؟ نحن هنا منذ آلاف السنين! قبل ميلاد آباء آبائك! على هذه الأرض نحيا ونموت، دون علم بوجودك أصلا.
فيصنع من ذلك “الاكتشاف” حدثا باهرا وإنجازا عظيما، ولو أنصف الدهر لربما كان الأولى أن يكتب أهل الجزيرة عن اكتشافهم لهذا البحار، وإحسانهم إليه، وإنقاذهم له من التيه، فلولاهم، لربما انتهى به الأمر إلى بطن الأسماك، بعد أن يفعل الموج فعله بسفينته، فتبقى حطاما وألواحا ودسرا متناثرة.
اليوم أيضا يحدث شيء قريب من ذلك، ولكن في ميدان “التاريخ” و”العلوم الشرعية” بدلا من الجغرافيا والبحار، يحدث أن يعمد أحد “البحارة” الصغار من ذوي الخبرة القليلة، و”الزوارق” الصغيرة، إلى إشكالية فقهية في أحد بطون الكتب، الورقية أو الالكترونية المتوفرة بوفرة هائلة، فيستل منها جدلية خلافية قتلت بحثا ودراسة، حتى ملَّ منها الأحناف، وحسمها الشافعية، وفصَّلها المالكية، وأصَّلها الحنابلة، وسكت عنها الظاهرية، ولم يبق قارئ ولا كاتب إلا وسئم تكرارها.
فيأتي هذا البحار “الفهامة” المكتشف الصغير، ويستلها من مكانها، ويقتطعها من سياقها، ثم يأتي بها من “بحر العلوم” ورفوف الكتب، إلى شاطئ التسطيح والتشويه، فيلقيها في هذا “البحر الأزرق”، على “شاطئ الصيادين” – الماهرين بصيد الأغلاط والأخطاء ونقد الخصوم، مع ضعف الفهوم وقلة العلوم!- ويصيح في أقرانه: ها أنا عثرت لكم على المسألة الفلانية الشائكة الغامضة، وإني أعرضها عليكم، فبم أنتم معلقون؟
فيتداعون إليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وعُدَّتُهم أفهامٌ مكلَّسة، ومعرفة محدودة، وجهل مركب، ويتناولونها، تناول الصغار للكرة، يرمونها يمنة ويسرة، و يتشاركونها، شبهة بعد شبهة، وشاذة بعد شاذة، فتصادف قلوبا إسفنجية كثيرة على هذا الفضاء الأزرق المفتوح، فتتشربها الأهواء، ويتلقفها الفارغون، فيثيرون بها عقائد العامة وأفكارهم، ويشوشون بها عليهم دينهم، فلا يُفِيدُونهم علما، ولا يُفْهِمونَهم حُكمًا، وإنما يغدقون عليهم “ماء مالحا” وسيلا جارفا من الشُبَهِ وغرائب المسائل، وشاذِّ الأقوال، كلما شربوا منه، ازدادوا عطشا إلى عطشهم، وشكا وحيرة إلى جهلهم!
هي ظاهرة عامة ينخرط فيها دكاترة وإعلاميون ومثقفون وطلبة علم مبتدئون، وخطباء ووعاظ معاصرون! تقوم مهمتهم على نبش التراث واستخراج شواذ الأفكار منه وطرحها أمام الآخرين بأسلوب “المفكر والباحث المستقل”، -مستغلين هذا الفضاء المفتوح، والجمهور العريض الفارغ- وهي لعمري مهمة سهلة غير مفيدة.
ينقسم المنخرطون في هذه الظاهرة إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الهاربون من الواقع، إلى الافتراضي، ومن معارك الحاضر إلى معارك الماضي، فيجترون الجدل البارد للأشاعرة والمعتزلة، ويسألون من جديد سؤال البدعة، عن استواء الله على العرش، والأولى أن يسألوا عن استواء الحاكم على العرش، -على حد تعبير الرائع عبد الله الطحاوي- وعن استواء المواطن المسكين على الأرض، وعن بقية “أسماء وصفات” الدولة المستبدة، وعن “إيمان” من فقد الحرية والكرامة الإنسانية، وعن حقوق الناس على الحاكم.
أما النوع الثاني: فهم المُتَعَالِمُون، الذين يقرؤون قليلا، ويكتبون كثيرا، تتقلب آراؤهم حسب آخر كتاب قرأوه، يصبح الرجل منهم مقلدا ويمسي مجتهدا، ويمسي مجتهدا، ويصبح مفكرا مجددا، ينتقل من متابعة المباريات ومشاهدة الأفلام إلى تصحيح أقوال العلماء والحسم في أمور الشريعة، وهو لما يحصل بعد على “فرض العين”، ولم يأخذ من علوم الآلة والدراية ما يؤهله لذلك.
يريدون ببضاعة مزجاة من المطالعة لرؤوس أقلام في كتب متفرقة، أن يصححوا مذاهب الإسلام الأربعة وأن يفسروا القرآن، ويحسموا في صحيح الحديث وسقيمه، “وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا“.
أما النوع الثالث: فيمارسون هذه المهمة تحت عنوان جميل، هو “البحث عن الحقيقة”، -ونعم العنوان والله- ولكن مشكلة هؤلاء الباحثين عن الحقيقة، أنهم كلما عثروا على “فكرة” أو “خاطرة” أو “تفسير وهمي”، وهم في بداية طريقهم، صاحوا علينا إليكم حقيقة المسألة الفلانية، والراجح من الأقوال في المذهب الفلاني، وهذا ما توصلت إليه…إلخ.
وحين نلتفت لا نجد سوى السراب، لا نجد سوى مقولات مكررة، وأفكار ممجوجة ومملة، لاكتها الألسن وشبعت منها الأيام، وقتلها الناس بحثا وتنقيبا، فليتهم سكتوا أثناء بحثهم هذا حتى ينتهوا فيوافونا بخلاصته وخاتمته ويتركونا من هذه التفاصيل المملة والتناقضات المربكة، وبنيات الطريق المتقلبة، والمواقف المهتزة التي لا يثبتون عليها طرفة عين، وسرعان ما يغيرونها:
كَريشَةٍ في مَهَبّ الرّيحِ ساقِطَةٍ، لا تَسْتَقِرّ على حالٍ منَ القَلَقِ!
لست ضد التفكير الحر، ولا البحث عن الحقيقة، ولا غربلة التراث، بل مع حرية الاعتقاد والإيمان، وحرية البحث والتعلم والنقاش، وأن يقتنع كل شخص بما يراه، وأن يبحث كما يشاء، ولكن ما أدعو إليه وأؤكد عليه، هو أهمية احترام التخصص، وإتيان العلوم من بابها، ونقاش الأمور في سياقها، ووزن الأشياء بمقاييسها، وعدم الاعتداء على النصوص واجتزائها، وترك المهام لأهلها، وإعطاء القوس لباريها.
فإغراق الفضاء العام بشواذ المسائل وغريب الأقوال واستفزاز الناس في مسلمات دينهم ومُجْمَعات أمورهم ليس طريقا للعلم ولا للتحصيل ولا للوصول للحقيقة، ولا لمعرفة الصواب، وإنما هو طريق للإثارة، وجمع الإعجابات والمشاركات، واستمطار التعليقات، والردود، وصنع الزخم والمعارك الهامشية.
فالعلم بالتعلم “وَالْفِقْهُ بِالتَّفَقُّهِ، وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّههُّ فِي الدِّين”، “وَإِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ”، فلا يجدي في طلب العلم حرق المراحل، ولا القفز على المناهج، ولا التمظهر بمظهر المفكرين والمجددين، وكثرة النقاشات، وارتفاع الأصوات، إنما بالتعلم والتفقه.
وإن ثمرة المعرفة الحقيقية، هي التحلي بكريم الأخلاق والتواضع، وتقدير جهود الآخرين الذين أفنوا أعمارهم في خدمة العلم جمعا وتنقيحا وتصحيحا، وتحري الدقة في الأحكام والبعد عن الإطلاق والتعميم، واحترام التخصص، وترك التعصب والتماس نصف الحقيقة عند الآخر المخالف في الرأي!
ولا خير في علم لا يورث خشية الله، ونصرة دينه، أحرى أن يكون الهدف منه الجدل والصد عن سبيل الله وتشكيك الناس في أمر دينهم… فبئس العلم والمعرفة يومئذ.
—
* المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.