– الإحسان أعلى مراتب الدين فصاحبه لا يصل إليه دون الوصول إلى مرتبتي الإسلام والإيمان
– من تمام إحسان الله عز وجل أنه ما خلقنا عبثاً بل أحسن خلقنا وأتمه حتى نقوم بعبادته
– الأسرة التي تربي أفرادها على الإحسان محسنة قوية يتكون من مجموعها مجتمع مؤمن قوي
– مشاهدة العبد ربه في كل أعماله هي روح الإحسان والمراقبة الدائمة لله هي ثمرته الحلوة
– الإحسان للوالدين يكون بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما
إنك إن تأخذ بيد ولدك لطريق الإحسان وتسير به إليه، لهو أمر عظيم يستحق الإعجاب، لكن الأعظم من ذلك أن تكون أنت محسناً ليأخذ منك وعنك هذا الخلق العظيم قولاً وفعلاً، مشافهة واقتداء، فيصير من أهل هذه العبادة الجليلة التي لا يعطيها الله تعالى إلا لمن يحبهم ويحبونه.
ألا إن هذه المحطة التي نصل إليها ونحط فيها الرحال – محطة الإحسان – هي طريق أهل الله المقربين، الذين سمت أرواحهم وأفئدتهم إلى حيث القرب منه والمعية، فعبدوا ربهم كأنهم يرونه، وتمثلوا أنفسهم خاشعين بين يديه وهو عز وجل ينظر إليهم ويرقب حركاتهم ويعُدُّ أعمالهم ويحصيها لهم، ولا عجب أن تجدهم بعد ذلك لله خاشعين، ولعباده محسنين، ومن عذابه مشفقين، ولرضوانه طالبين، ولجنته عاملين، ولأعمالهم متقنين، وبهذا استحقوا أن يكونوا من عباده الفائزين الذين قال الله فيهم: (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) (يونس: 26).
الإحسان:
هذه الكلمة الطيبة التي تحمل بين حروفها معاني الحسن والجمال، ويحس صاحبها بمشاهدة الله له في كل حال، وقد ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الإحسان هو: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (رواه مسلم)، وفي رواية أخرى لمسلم، قال: «أن تخشَى الله كأَنك تراه، فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك».
وإذا كانت مراتب الدين ثلاثاً، فإن الإحسان هو أعلاها، فصاحبه لا يصل إليه دون الوصول أولاً إلى مرتبتي الإسلام والإيمان، ومن هنا جاء ذكر الإحسان في القرآن الكريم مقروناً تارة بالإسلام، وتارة بالإيمان، وكذلك بالتقوى أو العمل الصالح، ذلك لأن الإحسان هو السبيل الخالص إلى كل ذلك.
وقد ذكر ابن رجب في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم : «أن تعبد الله كأنك تراه»؛ أن العبد إذا عبد الله تعالى على هذه الصفة، وهي استحضار قربه وأنه بين يديه كأنه يراه، أوجب ذلك في قلبه الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، وأوجب أيضاً النصح في العبادة وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وكمالها(1)، كما ذكر الإمام ابن القيم أن الإحسان هو لب الإيمان وروحه وكماله، فبه يهاجر العبد بقلبه إلى ربه بالتوحيد والإخلاص، والإنابة والحب، والخوف والرجاء والعبودية، ويهاجر إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالتحكيم له والتسليم والتفويض، والانقياد لحكمه، وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته(2).
الإحْسَان نوعان:
والإحسان يتحقق بالمشاهدة والمراقبة، ويُطلب في عبادة الله، ومع معاملة عباده وخلقه، وبذلك يكون نوعين:
– إحسان العبد في عبادة الخالق: قال ابن حجر: «وإحسان العبادة الإخلاص فيها والخشوع وفراغ البال حال التلبس بها ومراقبة المعبود»(3).
– وإحسانٌ في حقوق الخَلْق: «وهو بذل جميع المنافع مِن أي نوعٍ كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحْسَن إليهم، وحقّهم ومقامهم، وبحسب الإحْسَان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحْسِن وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك»(4).
نحن والإحسان:
والإحسان نراه حولنا في صنع الله عز وجل (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة: 7)؛ أي: أتقن كلّ شيء وأحكمه، وحسَّن خلقه(5)، ومن تمام إحسانه عز وجل أنه ما خلقنا عبثاً، بل أحسن خلقنا وأتمه حتى نقوم بعبادته، قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ {4}) (التين)، فهذه الصورة المتكاملة لخلق الإنسان، الحسنة المتقنة الصنع، سبيل لأن يكون هذا المخلوق إنساناً عاملاً مسلماً مؤمناً، محسناً في جميع أحواله، متبعاً أحسن دين، عابداً أحسن عبادة.
إن الأسرة التي تربي أفرادها على الإحسان هي أسرة محسنة قوية، يتكون من مجموعها مجتمع مؤمن قوي، يراقب الله في كل أعماله، فيصير مجتمعاً عاملاً منتجاً، يعرف أفراده قيمة الوقت ويحسنون التصرف فيه، فيوظفونه فيما يعود عليهم بالنفع في الدنيا والآخرة؛ لذا فإن الإحسان الذي نحتاجه في حياتنا، والذي ينبغي أن نربي عليه أنفسنا، وننشئ عليه أولادنا، هو هذا الإحسان الواسع المفهوم، المتعدد الصور، الشامل كل حياتنا، حيث نحتاجه في عباداتنا القولية والفعلية، وفي عبادات الجوارح الظاهرة وعبادات القلوب الخفية.
إنه الإحسان مع الله بالإيمان به، والإخلاص له، وحسن طاعته، والانتهاء عن نواهيه، ثم مع النفس بحفظها ووقايتها من غضب ربها، وهو الإحسان إلى الأهل والوالدين والأرحام ببرهم وحسن صحبتهم، وصلتهم وأداء حقوقهم، ومع الناس عامة بحسن معاملتهم والرفق بهم.
كما أنه الإحسان مع كل ذي كبد رطبة من الحيوانات والبهائم بل مع الكون كله والبيئة وما فيها من أسباب الحياة، قال تعالى: (وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ {56}) (الأعراف)، إنه إحسان عام يشمل كل ما هو جميل وحسن، ويتطلب الجودة والإتقان والتحسين فيما نقوم بفعله، أو نتعامل معه، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (رواه الطبراني)، وقال: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء» (رواه مسلم).
النبي الكريم يعلمنا الإحسان:
وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان، فقد روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنَّ رجلاً توضأ فترك موضعَ ظفرِ على قدمِهِ، فأبصرهُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: «ارجِعْ فأحسنْ وضوءَكَ»، فرجع ثم صلُّى. (رواه مسلم)، ودعانا إليه فقال: «ما من امرِئ مسلِم تَحضره صلاة مكتوبة، فيُحْسِن وُضوءها وخشوعها وركوعها، إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يُؤتِ كبيرة، وذلك الدهر كله» (رواه مسلم).
كما قال للرجل المسيء صلاته: «ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ»، حتى فعل ذلك ثلاث مرات، ثم علّمه قائلاً: «إذا قمت إلى الصلاة فكبّر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» (رواه مسلم)، وهكذا في سائر العبادات حيث يتوجب فيها الإتيان بها على أحسن الوجوه، ألا يكون ذلك منهجاً لنا في التربية حين نعلّم أولادنا كيف يحسنون في كل عمل من أعمالهم، حين يتكلمون أو يصمتون، وحين يتعاملون مع والديهم وإخوانهم ومعلميهم، بل وهم يؤدون واجباتهم ويستذكرون دروسهم ويطلبون العلم ويتعلمون القرآن؟!
الإحسان والمراقبة:
ومشاهدة العبد ربه في كل أعماله هي روح الإحسان وحياته، والمراقبة الدائمة لله هي ثمرته الحلوة، وإن تربية أولادنا بالإحسان وعلى الإحسان ينمي فيهم بذرة المراقبة التي سرعان ما تثمر، تلك التي منعت راعي الغنم من معصية الله.
فقد مرَّ ابن عمر براعي غنم، فقال: يا راعي الغنم، هل من جزرة؟ قال الراعي: ما ليس ها هنا ربها، قال: تقول: أكلها الذئب! فرفع الراعي رأسه إلى السماء، ثم قال: فأين الله؟! فقال ابن عمر: فأنا والله أحق أن أقول: فأين الله، فاشترى ابن عمر الراعي، واشترى الغنم، فأعتقه وأعطاه الغنم. (رواه الطبراني).
هذه المراقبة تأخذهم إلى خشية الله وتعصمهم من الوقوع في منزلق المعاصي والغرق في بحر الشهوات، فيتحقق لهم الاستقامة بثبات على طريق الله ولو كانوا وحدهم بعيداً عن أعين الوالدين والمربين والمراقبين، كما تدعوهم إلى إحسان العبادة والحرص على أدائها تامة مستوفاة الشروط والأركان، مع الصبر عليها حتى تصير أحسن العمل، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً {7}) (الكهف)، وأحسن العمل: أخذ بحق وإنفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه(6).
الإحسان في المعاشرة والصحبة:
وكما يكون الإحسان في العبادة فإنه يكون في المعاشرة والصحبة لمن نعيش معهم، وهذا أيضاً عبادة، وقد بين الله تعالى ذلك فقال: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) (النساء: 36).
فالإحسان بالوالدين يكون بالقول الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما والإنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا بهما، والإحسان بذي القربى ويشمل ذلك جميع الأقارب، قربوا أو بعدوا، بأن يحسن إليهم بالقول والفعل، وألا يقطع برحمه بقوله أو فعله، والإحسان باليتامى كفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم وتأديبهم، وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم، والإحسان بالمساكين سد خلتهم ودفع فاقتهم، والحض على ذلك، والقيام بما يمكن منه، والإحسان بالجار فلذي القربى حقان؛ حق الجوار، وحق القرابة.
أما الجار الجنب الذي ليس له قرابة فله حق الجوار، فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة بالأقوال والأفعال وعدم أذيته بقول أو فعل.
أما الصّاحِبِ بِالْجَنْبِ فيشمل الصاحب في الحضر والسفر، ويشمل الزوجة، وله حق زائد على مجرد إسلامه، من مساعدته على أمور دينه ودنياه، والنصح له، والوفاء معه في اليسر والعسر، والمنشط والمكره، وأن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد، أما الإحسان لابن السبيل؛ وهو الغريب، فله حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى مقصوده أو بعض مقصوده، وبإكرامه وتأنيسه(7)، قال ابن عاشور: فإلى حقيقة الإحسان ترجع أصول وفروع آداب المعاشرة كلها في العائلة والصحبة، والعفو عن الحقوق الواجبة من الإحسان لقوله تعالى: (وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134}) (آل عمران)(8)، وذكر الشيخ السعدي: إن من الإحسان نفع الناس بالمال والبدن والعلم، وغير ذلك من أنواع النفع حتى إنه يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول وغيره(9).
وَأَحْسِنُوا:
وهذه بشارة لكل محسن؛ (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {195}) (البقرة)، وقد ذكر الشيخ السعدي أن هذا يشمل جميع أنواع الإحسان، فيدخل فيه الإحسان بالمال والجاه والشفاعات، والإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، وقضاء حوائج الناس؛ من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالهم، وإعانة من يعمل عملاً، والعمل لمن لا يحسن العمل.. ونحو ذلك مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضاً الإحسان في عبادة الله تعالى، وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك»(10)، وأبشر يا عبد الله، فالله لن يضيع إحسانك، قال تعالى: (وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ {56}) (يوسف).
الهوامش
(1) انظر: جامع العلوم والحكم، للإمام ابن رجب الحنبلي.
(2) تهذيب مدارج السالكين لعبدالمنعم صالح العلي (بتصرف يسير).
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري (كتاب الإيمان) ابن حجر العسقلاني.
(4) بهجة قلوب الأبرار للسعدي، موقع «الدرر السنية»، موسوعة الأخلاق.
(5) تفسير الطبري، سورة السجدة: الآية 7.
(6) تفسير القرطبي، سورة الكهف: الآية 7.
(7) انظر: تفسير السعدي، سورة النساء: الآية 36.
(8) التحرير والتنوير، ابن عاشور، سورة النحل: الآية 90.
(9) انظر: تفسير السعدي، سورة النحل: الآية 90.
(10) انظر: تفسير السعدي، سورة البقرة: الآية 195.