أيام قليلة ويهل علينا شهر رمضان المبارك، شهرٌ تستريح فيه النفس البشرية من هموم الدنيا وأنماط الحياة المتسارعة، يُمثل شهر رمضان محطة تجديد ونقطة انطلاق للكثير من الناس، تتجلى في شهر الرحمة أسمى غايات التوازن النفسي والجسدي في كبح جماح الشهوات والعادات السيئة؛ لذلك من كان يبحث عن وقت مناسب للتغير وإيجاد ذاته فليسأل الله أن يبلغه شهر رمضان، في هذه المقالة سأتكلم عن فوائد الصيام الصحية وعن العمليات الأيضية والسلوك الخلوي لجسم الإنسان خلال فترة الصوم.
أثر الصوم على الدماغ
لو تتبعنا العادات الغذائية اليومية لمجتمعاتنا نجدها تتكون في الأغلب من ثلاث وجبات رئيسة تتخللها وجبات خفيفة في منتصف اليوم، خلال فترة الصوم، يدرك الدماغ نقص الغذاء في الجسم ويعتبره تحدياً، ويقوم الدماغ على أثره بالتكيف مع مسارات وإشارات الاستجابة للضغط النفسي التي تساعد الجسم على التعامل مع التوتر؛ الأمر الذي يؤدي إلى زيادة إفراز وتحفيز مجموعة من “بروتينات العوامل العصبية” المسؤولة عن نمو وتطور وسلامة الخلايا العصبية.
هذا التحفيز يقوي من الذاكرة، ويحارب مرض الزهايمر؛ بسبب تفعيل عمليات إصلاح الحمض النووي في الخلايا العصبية التي قد تكون تضررت بسبب تكدس المواد السامة الناتجة من عمليات التمثيل الغذائي والأشعة فوق البنفسجية والتوتر المستمر والتي تؤثر سلباً على وظيفة الحمض النووي في عمليات النسخ، ونتيجة لتحسن الحمض النووي ومع كثرة عدد الخلايا العصبية، تكون المسارات (أو نقاط الاشتباك العصبي) أكثر نشاطاً؛ وبالتالي تؤدي إلى تحسين قدرة الذاكرة والتعلم بصورة أسرع.
أثر الصوم على الجهاز المناعي
تركز الأبحاث العلمية الحديثة اليوم على إيجاد طريقة تحفز من عمل الجهاز المناعي ليقوم بعمله المعتاد في الدفاع عن الجسم، وكذلك في محاربة الأمراض ذات الطابع المناعي، وفي هذا الصدد أشار آخر البحوث المنشورة في مجلة “الخلية” لعام 2017م أن الصيام أو اتباع برنامج غذائي مشابه للصيام يعزز من زيادة نشاط التعبير الجيني، ويجدد الخلايا البنكرياسية التالفة والتي بدورها تساعد على الإفراز الطبيعي للأنسولين وخلايا بيتا التي تحمي من الإصابة بمرض السكري.
كما أشار البحث إلى أن الصيام يقوي جهاز المناعة ويحسن المؤشر الوظيفي للخلايا اللمفاوية، كما تزداد نسبة الخلايا المسؤولة عن المناعة النوعية زيادة كبيرة، وترتفع نسبة بعض أنواع الأجسام المضادة، كما تبين أن الصيام لفترات طويلة يساعد في تحويل الخلايا الجذعية من حالة سبات إلى حالة التجديد الذاتي، كما يحمي من هدم نظام المناعة كأثر جانبي للعلاج الكيماوي ضد السرطان، ويقلل من مستويات هرمون عامل النمو (إي جي إف-1) المرتبطة بتطور الأورام السرطانية، وقد ثبت أن الصيام يعزز من نشاط الخلايا المناعية التي ترفع من فعالية العلاج الكيمياوي باستهداف الخلايا السرطانية متجنبة الخلايا الطبيعية في نفس الوقت.
ومن تأثيرات الصيام الإيجابية التي لها تأثير على الأمراض المناعية الأخرى غير مرض السكري هو تأثيره على الأمراض الروماتيزمية أو ما يسمى بالأمراض “الرثوية”، وهي تتشارك مع مرض السكري في كونها أمراضاً مناعية أيضاً.
أثر الصوم في إزالة السموم
تتراكم المواد السامة داخل أجسامنا طوال العام لأسباب عديدة؛ منها: تبني نظام غذائي خاطئ، قلة النشاط الرياضي، الآثار الجانبية للأدوية، الهواء الملوث من عوادم السيارات وغازات المصانع وغيرها؛ مما تؤدي إلى تشوهات خلوية، يحتاج الجسم إلى محطة تنظيف كامل وإعادة توازن لكافة الأعضاء، تمتاز أجسامنا على تنظيف نفسها من الداخل من خلال عملية تسمى “الالتهام الذاتي”؛ حيث يتم التهام هذه المواد السامة والشوارد المتفرقة ويُعاد تدويرها واستخدامها في تصنيع خلايا جديدة.
بينت الدراسات ومراكز الأبحاث أن الصيام يعزز من آلية الالتهام الذاتي، وأن حالة الجوع التي يفرضها الصيام تجبر الجسم على استخدام مصادر بدلية للطاقة، يبدأ الجسم باستخدام أجسام الكيتون الناتجة من حرق الدهون المتراكمة والتي تقلل من الالتهاب الخلوي وتراكم الجذور الحرة في الخلايا.
كذلك فإن عملية الالتهام الذاتي تعمل على إصلاح الأجزاء المعطلة في الخلية، ففي بعض الأحيان لا تحتاج الخلية إلى عملية استبدال بل إلى عملية إصلاح، وهنا يكمن الفرق بين هذه العملية وعملية “الموت الخلوي المبرمج” الذي تختار الخلية من خلاله مسار الموت، وحظيت عملية الالتهام الذاتي باهتمام كبير من قبل الباحثين، وقد حاز العالم الياباني يوشينوري على جائزة “نوبل” للطب والفسيولوجيا – علم دراسة الأعضاء – لسنة 2016م لمساهمته في اكتشاف أبعاد هذه الآلية وما تحمل من دلالات واعدة في محاربة كثير من الأمراض.
ومن هنا، نجد أن الصوم يعزز ويحفز المسارات الإيجابية في الجسم، ويكبح ويقلل من التفاعلات الضارة؛ لذلك يعد الصوم هو العامل المشترك بين جميع الأديان مع اختلاف الأسباب والأوقات.
يقول د. ألكسي كاريل، الحائز على جائزة “نوبل” سنة 1912م في كتابه “الإنسان ذلك المجهول”: إن كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطل وظيفة أدت دوراً عظيماً في بقاء الأجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام، كان الناس في الزمان الغابر يلتزمون بالصوم في بعض الأوقات، وكانوا إذا لم ترغمهم المجاعة على ذلك يفرضونه على أنفسهم فرضاً بإرادتهم، إن الأديان كافة لا تفتأ تدعو الناس إلى وجوب الصوم، يُحدث الحرمان من الطعام أول الأمر الشعور بالجوع، ويحدث أحياناً بعض التهيج العصبي ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بيد أنه يحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم، سكر الكبد يتحرك ويتحرك معه الدهن المخزون وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد، وتضحي جميع الأعضاء بمادتها الخاصة للإبقاء على كمال الوسط الداخلي وسلامة القلب.. إن الصوم ينظف ويبدل أنسجتنا.
رمضان دعوة للتجديد، تتجدد فيه الخلايا والنوايا والنفوس، لذلك قال الله تعالى: (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {184}) (البقرة).
(*) حاصل على درجة الدكتوراه في علم الأورام السرطانية ويعمل كباحث علمي بجامعة العلوم الماليزية.
المصدر: “إسلام أون لاين”.