- ·ما أسرار الصيام الكبرى؟ وكيف نتعرف على هذه الأسرار؟
– جواب فضيلة الشيخ د. يوسف القرضاوي:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن اتبعه إلى يوم الدين، وبعد:
لن نستطيع أن نُدرِك سِرَّ هذا الصوم إلا إذا أدركْنا سِرَّ هذا الإنسان.. فَما الإنسان؟ وما حقيقته؟ هل هو الجُثَّة القائمة وهذا الهَيكل المُنْتَصِب؟ هل هو هذه المجموعة مِن الأجهزة والخَلايَا واللحْم والدَّمِ والعظْم والعصَب؟ إن كان الإنسان هو ذلك فما أحقَره وما أصغرَه!
نعم.. ليس الإنسان هو ذلك الهيكل المحسوس، إنما هو روح سماويٌّ يَسكن هذا الجسم الأرضيَّ، وسِرٌّ مِن الملأ الأعلى في غُلاف مِن الطين! فحقيقة الإنسان هو ذلك اللطيفة الربانية، والجوهرة الروحانية التي أَودَعها الله فيه، بها يَعقِل ويُفكِّر، وبها يَشعُر ويَتَذَوَّق، وبها يُدَبِّر مُلْك الأرض، ويَتطلع إلى مَلكوت السماء، وبها أمَر الله الملائكة أن تَسجُدَ لآدم، لا لِمَا فيه حَمَأٍ مَسْنُون، وطين معجون؛ (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ {71} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ {72}) (ص).
ذلكم هو الإنسان؛ رُوح عُلويٌّ وجسد سفلي، فالجسد بَيتٌ، والرُّوح صاحبُه وساكنُه، والجسد مَطِيَّة، والروح راكب مسافر، ولم يُخلَق البيت لنفسه، ولا المطية لذاتها، ولكن البيت لمَصلحة الساكِن، والمَطية لمنفعة الراكب، فما أعجب هؤلاء الآدميين الذين أهملوا أنفسهم وعُنُوا بمساكنهم وجَعَلوا مِن ذواتهم خُدَّامًا لمطاياهم، وأهمَلوا أرواحهم وعبَدوا أجسادهم، فللجسد وحَدَه يعملون، ولإشباع غرائزه الدنيا ينشطون، وحول بطونهم و فروجهم يدورون، نشيدهم الدائم قول القائل: إنَّمَا الدنيا طَعام وشراب ومَنام فإذا فاتَكَ هذا فعلى الدنيا السلام أولئك الذين وصفهم الله بقوله: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً {43} أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً {44}) (الفرقان).
ذلكم هو الإنسان رُوح وجسد، فللجَسَدِ مَطَالبٌ مِن جِنْس عالَمِه السُّفْليِّ، وللرُّوح مَطالب مِن جنس عالمها العلويِّ، فإذا أَخضَع الإنسانُ أشواقَ رُوحه لمطالبَ مِن جِنس غَريزته في عقله، استَحال مِن مَلاَك رحيم إلى حيوان ذميم إلى شيطان رجيم، هذا الذي ناداه الشاعر المؤمن: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتطلب الربح مما فيه خسران؟ أقبل على النفس واستكمل فضائله فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان أمَّا إذا عرَف الإنسان قيمة نفسه، وأَدرك سِرَّ الله فيه، وحَكَّم جانبه السماوي في جانبه الأرضي، وعُنِيَ بالراكب قبل المَطِيَّة، وبالساكن قبل الجُدران، وغَلَّب أشواق الرُّوح على نوازع الجسد، فقد صار مَلاَكًا أو خيرًا من المَلاك؛ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ {7}) (البينة).
ومِن هُنَا فرَض اللهُ الصيام لِيَتَحرَّر الإنسان مِن سلطان غرائزه، ويَنْطَلِقُ مِن سِجْن جَسَده، ويَتغلب على نزعات شهوته، ويَتحكم في مظاهر حيوانيته، ويَشتبه بالملائكة، فليس عجيبًا أن يَرتقي رُوحُ الصائم ويَقترب مِن المَلَأ الأعلى، ويَقرَع أبوابَ السماء بدعائه فتُفتَح، ويَدعو ربه فيستجيب له، وينادِي فيقول: لبَّيْك عَبدِي لبَّيْك، وفي هذا المعنى يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة لا تُرَدُّ دعوتهم: الصائم حتى يُفطِر، والإمام العادِل، ودعوة المَظلوم…” (رواه الترمذي وحسَّنَه، وأحمد وابن ماجة وابن خُزَيْمَة وابن حِبَّانَ في صحيحيهما).
المصدر: موقع د. يوسف القرضاوي.