لأول وهلة، ارتسم الارتياح على ملامح الطبيب محمد الخزامي، وهو يرى مدينته، الموصل، مُعافاة من تنظيم “داعش”، لكن سرعان ما نغص عليه دمار حرب التحرير، التي استمرت نحو 9 أشهر.
كان الخزامي مسرعاً ومتشوقاً للوصول إلى منزله، في حي الشفاء، على الجانب الغربي للموصل، قبل أن تأخذ ملامحه في التغيُّر، فور وصوله هذا الشطر من المدينة، التي سيطر عليها “داعش” صيف عام 2014م.
بعد ساعة من المسير وسط الركام، دمعت عينا الطبيب الأربعيني، وهو يؤكد لمراسل “الأناضول”، الذي كان برفقته، أنه لم يعد يعرف الطريق إلى منزله، رغم أنه ولد وترعرع في هذه المدينة.
وعند وصوله “طب الموصل”، الذي كان واحدًا من آخر معقلين يدافع عنهما “داعش”، وسط حي الشفاء، كان الخراب أكثر وقعاً على الخزامي، حيث سويت المباني بالأرض، وما تبقى التهمتها النيران.
ويعد “طب الموصل”، المعروف أيضاً باسم بالمجمع الطبي، واحدًا من أكبر المجمعات الطبية في العراق، وكانت تضم مستشفيات متخصصة، ومراكز صحية مختلفة، إضافة إلى كلية الطب.
أخيرًا، وصل الخزامي إلى الشارع الفرعي المؤدي إلى منزله، قرب دورة قاسم الخياط، حيث كانت 90% من المنازل، على جانبي الطريق، مدمرة بالكامل.
وعند الاقتراب من عتبة منزله، أشار بيده، وهي ترتجف، إلى كومة ركام، تنتشر في محيطها مخلفات الذخيرة، دون أثر للبيت، سوى سياجه الخارجي.
وقبل أن يهم بالرجوع إلى مخيم “حمام العليل”، جنوب الموصل، والذي خصص لاستقبال النازحين، وقف الطبيب على أطلال منزله متسائلاً: من سيبني منزلي، ويعيد لي فرحة أطفالي، وهم يلهون في باحته الجميلة؟
وامتدت أسئلة الرجل إلى من سيعيد لي الخدمات الطبية والتعليمية والأمنية والاقتصادية؟ كي أتمكن من الخروج من خيمة الصحراء والعودة إلى المدينة؟
والإثنين الماضي، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، من الموصل، تحرير كامل المدينة، ثاني أكبر المدن العراقية بعد العاصمة بغداد من يد “داعش”.
وقبل شن الهجوم لاستعادة المدينة، كان يقطنها أكثر من مليوني نسمة، نزح منهم خلال الحملة العسكرية 920 ألفاً على الأقل، وفق أرقام أعلنتها وزارة الهجرة العراقية، الأسبوع الماضي.
وإثر إعلان تحرير المدينة، عمت الاحتفالات العاصمة بغداد ومدناً ذات غالبية شيعية في وسط وجنوبي البلاد، غير أن المحامي عبدالودود محمد الشهواني، أحد أبناء الموصل، يرفض الاحتفال بتحرير المدينة، وتسمية ما تحقق بالنصر الكبير.
وفي إفادته لـ”الأناضول”، قال الشهواني، بينما كان يزيح نظارته الطبية ليمسح عينيه بمنديل أزرق: “قلبي يحترق”.
وأشار إلى امتلاكه صوراً للموصل قبل أحداث عام 2014م، وكأنها عروس جالسة على ضفاف نهر دجلة، وكل ما فيها أخضر جميل، رغم ما كانت تعانيه من إهمال وتضييق من قبل حكومة بغداد على أساس طائفي.
واليوم بعد سنوات الاحتلال “الداعشي” والحصار والحرب، يضيف الشهواني أن هذه المشاهد الجميلة “تحولت إلى خراب”.
وما يحزّ في نفس الرجل أكثر أنه بعد كل هذه المعاناة، وهجرة شباب الموصل إلى أوروبا وتركيا، يلصق الجميع تهمة الإرهاب والتطرف بهذه المدينة المنكوبة، التي غُلب على أمرها عندما سمُح بإدخال تنظيم “داعش” إليها في عام 2014م.
ويعتقد المحامي العراقي أن نخب المجتمع الموصلي تعي جيدًا أن الأمر خطير، وأن نشوة الانتصار هي فقط ما يمنع الآن بركان الأزمات المختلفة من الانفجار.
مستشهداً بوجود آلاف المشردين والنازحين في العراء، وآلاف الأيتام، وآلاف المعاقين، وآلاف الأرامل، وآلاف المفقودين.
من جهته، يرى أنمار خلف الحديدي، أحد الشباب الناشطين في محافظة نينوى، عاصمتها الموصل، أن الوضع الحالي للمدينة بحاجة إلى حملة داخلية ودولية لإعادة الإعمار.
وأضاف في تعليقه لـ”الأناضول”، أن استمرار مظاهر الموت والخراب أمام أعين الجميع سيدفع بمن بقي إلى الهرب، وعدم التفكير بالعودة.
لكن المحلل السياسي والخبير في شؤون الجماعات المسلحة، زهير يحي الطالب، بدا متفائلاً، بقوله لـ”الأناضول”: إن معركة الموصل وحدت جميع العراقيين، من شمالي البلاد إلى جنوبها، دون استثناء.
وأوضح أن الضرر لحق بجميع العراقيين بمختلف أطيافهم، أي أن الجميع معني برسم واقع أفضل، والخروج من عنق الزجاجة، بتجاوز مطبات المرحلة السابقة التي عصفت بالبلاد.
واستبعد الطالب أن تمر الموصل بأزمة أقوى من أزمة احتلالها من “داعش”، لجهة أن الجماعات الإرهابية هي أخطر مشاكل أي مجتمع، والقضاء عليها يتيح إعادة الإعمار، لتعود الحياة أفضل مما كانت عليه في السابق.