ربما رأينا داعية يخطب ويناظر، وسمعنا صوته يعلو فوق المنابر والمنصات، ولكن الشيخ أحمد ديدات يتألق من بين الدعاة الكبار، ويترسخ صوته ويتردد صداه على كل الصدى والصرخات، وقد استوقفت كلماته النافذة جميع من تطاولوا على الإسلام ورأوا فيه رجلاً يتمثل عبقرية وتعمقاً، وأدركوا قناصاً جديداً يبهر المكائد والحيل، ولم يعلموا أن هذا بداية عملية سريعة الانفجار، وما زالت كتبه ومحاضراته تعمل بدور فاعل في إنعاش مسلمي الهند وإشعال بريقهم، وهم يكررون اسمه وعنوانه في الحلقات والدورات ويفتخرون بأعماله وأفكاره، لماذا يحبون الشيخ أحمد ديدات؟ رجل بقلنسوة عادية وبنطلونات متردية ولحية بيضاء تتلألأ، يحبونه لقوة لسانه وطلاقة وجهه وإخلاص نيته، وقد اعترفت البطارقة وهيئة الكهنة الكاثوليكية أن هذا الرجل سيصبح صاعقة وضربة على هاماتهم ومفارق رأسهم، واستنهضوا لرد تياراته الفكرية المسددة، ولكن خابت طموحاتهم ورد كيدهم إلى نحورهم، ولم ينطفِ هذا السراج الوهاج إلا بعد إرساء سفن الإسلام في ضفة هادئة، وأحس من تآمروا به بكومة من اليأس وخيبة أمل، كأنه كابوس يهيج مقلات العداة والمكرة.
حياته في السطور
لقد تشرفت الهند بولادة هذا الفارس المقدام، إلا أن الظروف القاسية وشؤونه التجارية دعته إلى تحويل مركزه وقبلة دعوته إلى القارة السمراء، ويقف التاريخ أمام هذا الرجل المغوار ساكتاً ومبجلاً، رجل أصبح داعية من زاوية الأقمشة إلى علو المنابر وطي المحابر، وتحلى بتشوق وشدة تأمل في إعادة المجد الإسلامي وإعجازيته، رجل عادي تمكن لخرق بشاعة الديانة اليسوعية ولم يلتحق بأي جامعة أو مدرسة ولم يمارس بأي دورة تربوية، لكنه أراد وشد قلبه وعزمه فأجابته القدرة الإلهية وحماه الكنف الرباني، ومنذ أن خاض في معتركات المناظرات والحوارات الدينية لم يزل وسط مؤامرات وهجمات من قبل نشطاء التبشير والتنصير، حيث أيسوا وقطعوا رأس رجائهم في القارة السمراء وتفهموا أن الدولار لا يجدي ولا يفيد شيئاً، فسعوا في إفشاء البهتانات والإساءات، وقد راجعوا أمرهم بأن الفكرة المسيحية المثلثة لا تنتصر أمام فارس الميدان الشيخ أحمد ديدات.
ولد الشيخ في عائلة فقيرة سنة 1918م، وكان أبوه أحمد حسين يحاول لسد رمقه وصد قلقه حتى غادر إلى القارة الأفريقية الجنوبية منتظراً لصبح في معيشتهم، وفي سنة 1927م رافق معه نجله أحمد ديدات، وهنالك تنعطف القضية حيث فاجأ بطالب مسيحي يحاور مع قرينه، ويبثان إساءة وافتراء على الكتاب والسُّنة النبوية ووجها إليه أسئلة حتى وقف متحيراً في ذلك الوقت، فانتفض الشيخ لخطورة الأمر واعتزم لدفع هؤلاء الأوباش الذين يقاتلون الإسلام بالفرية ولا يحبون الصدق والحقيقة، ورجع إلى بيته وقلبه ينبض ويدق بالأمن والإيمان، وتتضرم حماسته لمبارزتهم، حتى اعتكف على القرآن والسُّنة وسهر في تعلم الإسلام وكشف حقائقه الصافية، وعندئذ وفقت له القدرة الإلهية لتعرف كتاب” إظهار الحق” الذي كتبه رحمة الله الكرانوي الهندي في أيام الاحتلال البريطاني، حيث استغلوا القوة والرئاسة للتبشير والتنصير، وهو كتاب يعد من أبهر الكتب الدعوية، وهو يسلط الضوء على أبشع أوجه النصرانية ويبرز شناعة هذه الديانة البشرية، ويسجل مراحلها طوراً فطوراً، واسمه يتردد في كل حلقات المناظرة التي تعد بين المسيحية والإسلام، كما دعم هذا الكتاب تأييداً ثابتاً للشيخ إيك أبي بكر مسليار المشهور باسم شمس العلماء في ديار مليبار، حيث زحفت آلات التبشير ودباباتهم في العائلات الفقيرة المسلمة، وخيمت فوق تلاع مقاطعة مالابرم بكيرالا، وأودعت نبرات الشك والتخمين في قلوب المسلمين حتى ارتدت ستون عائلة مسلمة من الإسلام ورضوا بديانة المسيحية، فقام شمس العلماء وهو يتحدى المنصرين ونشطاء التبشير، فكان سلاحه هذا الكتاب المذكور “إظهار الحق”.
وقد جذب هذا الكتاب خواطره وعقله وأيقن أن الإسلام قادر لرد معاقل الفرية وبيوت العناكب، ودخل ميدان المناظرة مع القسيس والأساقفة وطلبة البشارة، وهيجهم وأثار همتهم وجبروتهم، وفي الحقيقة كانت هذه الحادثة صدفة مهيبة بالنسبة لهم حيث لم يتوقعوا هذا الرد المفحم من قبل مسلم عادي مثله.
حواراته ومناظراته
أصبحت قفزته وخطوته في ميدان الدعوة بداية ثورة إسلامية من جديد، فانسلت أشعة الإسلام رويداً رويداً فوق الكنائس وتحت النواقيس، ولم تفز مراكز البشارة في سد هذا الفوج الزاحف، وقد تزينت كلماته بحدة فكرة وثقابة ذهن، وحكمته أسهمت في خرق عباءة المسيحية، وتتسم خطاباته بغزارة الدلائل والبراهين، وعبارات من أسفار التوراة والإنجيل وآيات من القرآن، وهذا النمط ظل تكتيكاً على وجه الكهنة، وعجزوا عن الرد والإجابة.
وقصة حواره مع أساتذة النصارى مثل الأستاذ دوكنس، والأستاذ روبرت دوكلس، تصنع العجب حيث انسحبوا من منصة الكلام وبهتوا أمام سيل الحجج والأدلة، فشرعت في العالم الإسلامي موجة تدعم الأمل والرجاء الصالح، ورأى المسلمون في كلماته أمارات الانتصار وفخر الأمة، فكانت هذه انطلاقة في جولة الدعوة والخطاب العام، في مختلف الدول الإسلامية وغيرها، واحتشد جم غفير في استماع هذا الرجل الباسل واستدعوا قلبهم للمسايرة مع القرآن والإسلام، في اليابان، الباكستان، أمريكا، ليبيا، زامبيا، وكندا، كلها أحست بنبضته ورمقت بعدسته.
مؤلفاته
ولم يكتف هذا الشيخ الباسل بمنبر الخطابة، بل نزل وصعد ألواح الكتابة والسطور، فنبع من معين قريحته عشرون كتاباً يوضح منهجية الإسلام ويقطع طرقاً جديدة، ويدمر قلع العدوان والمؤامرة ويبيد دعاية تقديس أسفارهم ويجعلهم صامتين من اليأس وعدم الثقة بأنفسهم ومن أبرزها:
– الخمر بين المسيحية والإسلام.
– الله في اليهودية والمسيحية والإسلام.
– الخلاف الحقيقي بين المسلمين والمسيحيين.
– القرآن معجزة المعجزات.
– الاختيار بين الإسلام والنصرانية.
وهذه الكتب القيمة دعمت الأمة الإسلامية لمقاومة الاحتلال الفكري، ومضت تغزو الأسواق وتبلغ الآفاق، كتب تنوب عن الكتائب.. ووزعت ملايين نسخها بشكل مجاني واستطارت ترجماتها عبر البر والبحر في مختلف اللغات العالمية والمحلية وتلقها العوام والعلماء بقبول واسع استقطبوا في سبر أغوارها، وشدت محاضراته جناح المسلمين حتى لا يتورطوا في تشويشات اليهودية والنصرانية، لقد سخّر قلمه في الرد على هذه العصابات الدينية، وأثبت حجته عليهم حتى ارتضوا الغنيمة بالإياب، ثم امتدت اهتماماته إلى تأسيس مراكز ومعاهد ومطابع، تخرج منها ومضة النور والحق المبين، تعقد فيها جلسات وحلقات وتنظم فيها دراسات عالية في مجال الفنون الإسلامية، كمعهد السلام لتخريج الدعاة الذي تم تأسيسه بجنوب أفريقيا، والمركز الدولي للدعوة الإسلامية بمدينة ديربان، وقد تشرفت هذه الشخصية العملاقة بعدة جوائز ووسامات، كجائزة الملك فيصل تقديراً واحتراماً لخدماته المخلصة.
رحم الله الشيخ ديدات، فقد كان عالماً منفتحاً يواكب العصر والظروف الحرجة، وكان فارس المنابر ونجم المنصات والمقاعد، يجول ويصول في ميدان الدعوة، رحمه الله.