يعدُّ عنوان المقال مثيرًا للانتباه والتساؤل في الوقت نفسه، بل قد يُثير الدهشةَ والاستغراب؛ وذلك لأن التاريخ من المفترض أن يكون تاريخًا صحيحًا يكتبه مؤرخون ثقات، لا يعرفُ الزيغ أو الميل والهوى إلى أقلامهم سبيلًا، حيث من المفترض أن يبقى التاريخ هو الشاهد على حياة الأمم والشُّعوب وحضارتها.
ولكن اقتضى واقع الحالِ أن تكون الحياديَّة في كتابة التاريخ من نصيب فئة قليلة من الكُتَّاب والمؤرخين، ممَّن اتقوا الله في كتاباتهم وراعوا ضميرهم، وعلموا أن الله سيُحاسبُهم عمَّا كتبت أيديهم، فعملوا لذلك اليوم، فلم يظهرْ في كتبهم إلا الصدق والنقل الصحيح للأحداث، ولكن نرى في الوجه الآخر من الكتابات التاريخيَّة ما سَادَه التزويرُ وطمسُ الحقائقِ؛ بل تزويرها.
لذلك ظهرت المقولةُ التي صارت قاعدةً في كتابة التاريخ للأسف وهي: “التاريخ لا يكتبه إلا المنتصرون”، والتي تُنسب إلى المفكر الألماني من أصل يهودي “والتر بنيامين”، وقد ظهرت القاعدة أو المقولة حوالي عام 1940م التي أطلقها صاحبها كي يُمَيِّـزَ بين ناسخ التاريخ أو مدوِّن الأخبار الذي يتأثر بالمنتصر، وبما هو ظاهر، وبين المؤرخ الماديِّ الذي وجب عليه الاهتمام بالإنسانِ منتصرًا كان أم مهزومًا.
وكما يقول الدكتور “أحمد زكريا الشلق”: “للأسف التاريخ يُكتب طبقًا للأهواء الشخصية”، فنحن حين نقلِّب صفحات التاريخ نجد الكثير من الشواهد التي تؤكد ذلك التزييفَ في التَّاريخ، حتى إن بعض الكتاب والمؤرخين عَمَدَ إلى تأليف الكتب بدون وضع أسمائهم عليها؛ حتى لا ينالَهم بطشُ الحكام في عصرهم، لذا نجد كتبًا ومصادرَ عدة تحت مسمَّى “مجهول المؤلف”.
وقد تكون أسبابُ التزييف أو التزوير في التاريخ متعمَّدةً، فمنها:
1- الميول والأهواء الفكريَّة والمذهبيَّة: وهو ما يتضح لنا عند دراسة كتب أهل السنَّة وكتب الشيعة في بعض الأحداث التاريخيَّة، وكذلك عند تناول أحداث الحروب الصليبيَّة – على سبيل المثال – حيث يعمد مؤرخو الشرق الإسلامي لوصف هذا الاحتلال بالبربريِّ الغاشمِ، في حين أن كُتَّاب الغرب الأوروبي يصفون المسلمين بالعنف والشدة والقسوة وغيرها من الصفات التي تعبر عن وجهة نظر أصحابها الدينيَّة والمذهبيَّة والفكريَّة.
2- إرضاء الحكَّام ورجال السلطة: وهو أكثر ما نجدُه في تزييف التاريخ؛ حيث نجد الكثير من المؤرخين يعمد إلى ذكر محاسن العصر الذي يحيا فيه للثناء على الحاكم والتقرب إليه بكل حال، وهم في ذلك قدوتُهم قول الشاعر ابن هانئ في مَلِكِ مصر المعز لدين الله الفاطمي:
مَا شِئْتَ لا مَا شَاءَتِ الأقْدارُ فاحْكُمْ فأنتَ الواحدُ القهَّارُ فَكَأَنَّمَا أنتَ النبيُّ محمدٌ وكأنَّما أنصارُك الأنصَارُ
وهناك عدةُ شواهدَ على تزويرِ التاريخِ منذُ القدمِ؛ ومنها:
دَرَجَ المصريون القدماء على عادةٍ غريبةٍ بعض الشيء؛ وهي تشويهُ مقابرِ الموتى السابقين، وإزالةُ أسماءِ الملوك المنحوتة عليها، ووضع أسمائهم بدلًا منهم، وهي بكلِّ الطرق والوسائل محاولة لتشويه التاريخ، مقصودةً أم غير مقصودة، فقد أُزِيلَ الكثير من أسماء ملوك مصر القديمة، وطُمِسَت العديد من أعمالهم أو نُسِبَت لغيرهم، وهذا يمكن أن ينطبق على معظم حضارات العصور القديمة.
ثم نرى أولئك الذين بدؤوا في تناول “سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم” وكتابتها، فنرى رغم وجود العديد من المصادر الأصيلة التي تناولت سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم، فإن بعض المتأخرين من الكُتَّاب مثل: “محمد حسين هيكل” صاحب كتاب “حياة محمد” الذي ظهرت له عدة طبعات، في هذا المَؤلَّف يحاول صاحبُه أن يبتعد عن ذكر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم على أساس أنها خُرَافات لا صحَّةَ لها ولا دليلَ عليها، فهو يحاول في كتابه هذا أن يرسم صورة خياليَّة لمحمد تتَّسم بالغموض والالتباس كما في قوله: “وبَدَا محمدٌ يومئذٍ في غايةِ السماحةِ”، وغيرها من الأمثلة التي توضِّح مدى تغلغل العلمانيَّة أو الماديَّة في فكر هذا الرجل، وهو ما حدا بالدكتور فاروق حمادة للقول في كتابه (مصادر السيرة النبوية وتقويمها)[1] – بعد أن عرَضَ كتابَ هيكل وذكر النقاط التي تؤخذ عليه: “ومما تقدَّم من النصوص القليلة التي نقلناها منه، نقولُ وبكلِّ اطمئنانٍ: إن الترويجَ لهذا الكتابِ وأمثالِه خيانةٌ علميَّةٌ، واستخفافٌ بالمعرفة الإسلامية، وبالقرَّاء والمثقفين”.
ويأتي ضمنَ هذه المدرسة العقلانية في كتابة سيرة الرسول الكريم كتاب “عبقرية محمد” الذي يعدُّ أحدَ أهم الكتب التي ألَّفَها الكاتبُ والمفكر عباس محمود العقاد؛ حيث يتحدَّث الكتاب عن عبقريَّة النبي محمد التي تتجلَّى في أفعاله، متصدِّيًا في هذا الكتاب للدفاع عن النبي محمد والذودِ عن شريعته والرد على شانئيه؛ لكنه أراد أن يضيف كلَّ ما قاله أو فعله صلى الله عليه وسلم إلى عبقريته الفرديَّة الفذَّة؛ بدعوى أن جانب الوحي والنبوة والرسالة أمور غيبيَّة روحيَّة، لا تثبت أمام البحث العلمي والموضوعيَّة، ولا قيمة لها في نظر العلم الحديث الذي قذف بها في عالم الأساطير والخرافات، ثم يزداد بنا اليقين بما تسعى له هذه المدرسة من تزييف للتاريخ الشريف لرسولنا الكريم، حين نراه يجمع بين سيد الأولين والآخرين وخاتم المرسلين رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، والفيلسوف، والصوفي الملحد، والسياسي، والمنهزم فكريًّا، وعابد البقر! فالعباقرةُ عند العقاد هم: رسول الله وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ومحمد عبده، وسعد زغلول، وابن سينا، وابن رشد، وابن عربي، والحلاج، وغاندي عابد البقر، وبنيامين فرانكلين وشكسبير… وغيرهم، وهكذا هم أبناء تلك المدرسة في الكتابة.
ثم جاءت كتابة سيرة صلاح الدين الأيوبي على نحوٍ من الحقيقة والموضوعيَّة حينًا والتزييف والميل والهوى أحيانًا أخرى؛ فمن ذلك نجد بعضهم نَسَجَ الأساطير والخرافات، وزاد من الإطراء والتبجيل، في كتب كثيرة، منها: كتاب “الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية” للمؤرخ أبي شامة الدمشقي، وكتاب “الفتح القسي في الفتح القدسي” للمؤرخ “عماد الدين الكاتب الأصفهاني”، بل من مصادر الأوروبيين المعاصرين لصلاح الدين، وممن تناولوا شخصيته فيما بعد، في حين نجد أن الأستاذ “حسين الأمين” قد عمل على الحفر في النصوص، في كتابه “صلاح الدين الأيوبي بين العباسيين والفاطميين والصليبيين”؛ حيث حاول استخدامَ نصوصٍ من مصادر معاصرة لصلاح الدين للقَدْحِ في شخصيته مثلما فعل من بعده يوسف زيدان حاليًّا؛ حيث جاء في مقدمة كتابه: “وإذا رأى القارئ فيما نقدِّمه إليه في هذه الصفحات شيئًا غير مألوفٍ لما في ذهنه عن صلاح الدين الأيوبي فهو لن يرى إلا حقائقَ مدعومةً بالنصوص التاريخيَّة المدوَّنة في أمَّهات الكتب”، ثم يقول: “ونحن في كلِّ ما كتبناه في موضوع صلاح الدين لم نبغِ إلا وجهَ الحقِّ؛ كشفًا عن حقائق تاريخنا التي عمل على طمسها المبطلون”، وبذلك فهو يرى أنه ينشر الحقائق التاريخيَّة ويقضي على الأكاذيب، وهو في نظرنا غير صحيح؛ وإنما دافعه في ذلك هو هدم مثل تلك الشخصيَّة التي كان لها من الآثار في التاريخ الإسلامي ما لها.
وتعدُّ شخصية سعد زغلول من أكثر الشخصيات المصرية التي التفَّ حولها الشعب، وأُلِّفت حولها القَصصُ، ونسجت الأساطير التي تناولت شخصية الوطني الزعيم والمناضل الكبير ضد الإنجليز، ولكن ما إن نفتح الصفحة الأولى من مذكراتِه الشخصيَّة التي يقول فيها: “ويلٌ لي ممَّن يطالعُ تلك المذكرات من بعدي”، وهي المذكرات التي حَرَصَ سعد زغلول على عدم نشرها، ولكنها نُشرت بعد إضافاتٍ وتعديلاتٍ من وحي خيال المحقق كما ذكر هو نفسه – المحقق – في مقدمة تحقيق المذكرات، وهذه المذكرات تُدهش من يقرؤها؛ حيث تجد فيها أن سعد زغلول كان صديقًا للإنجليز كما ذكر المؤرخ عبدالرحمن الرافعي: “لقد بدأ الزعيم حياته السياسية صديقًا للإنجليز، وختمها كذلك صديقًا للإنجليز، وبدأها بمصاهرة أشهر صديق للإنجليز عَرَفَتْهُ مصر في تاريخ الاحتلال من أوله إلى آخره وهو مصطفى فهمي باشا[2]، ونجد سعدًا نفسه يؤكد هذا بقوله: “إن اللورد كرومر كان يجلسُ معي الساعةَ والساعتين، ويحدثني في مسائلَ شتَّى كي أنوَّرَ منها في حياتي السياسية[3].
ثم نرى الكاتب محمد محمد حسين يقول: “لقد اختار اللورد كرومر سعد زغلول وزيرًا للمعارف، فحاولَ بمجرد تعيينه إحباط مشروع الجامعة المصريَّة، وتصدَّى للجمعيَّة العموميَّة حينما طالبت الحكومة في مارس 1907م بجعل التعليم في المدارس الأميرية باللغة العربية، وكان وقتئذٍ بالإنجليزية، وكان الاحتلال هو الذي أحلَّ اللغة الإنجليزية محلَّ العربية في التدريس[4].
ثم يقول العقادُ: وكان “سعد زغلول” رجلًا له رأي في المرأة، وفيما ينبغي أن تكون عليه، ومن ذلك أنه أعانَ “قاسم أمين” صديقَه الحميم على إظهار كتابه: “في تحرير المرأة”، وتشجيعه على تحمُّل ما لَقِي في سبيله من سخط وعناء[5]، كل هذا وأنت ترى كتبَ التاريخ وتتصفَّحها لا ترى فيها ذكر لأي من مثالب هذا الرجل.
وقد أخذَ بعضُ المؤرِّخين المتأخِّرين والقدامى على عاتِقِهم مَهمة إعادة كتابة التاريخ في محاولة منهم لتنقيح الأحداثِ، وتوضيح الخطأ من الصواب؛ فظهرت من ذلك دعوات لإعادة كتابة التاريخ؛ فمن ذلك كتاب: “حول إعادة كتابة التاريخ الإسلامي” للدكتور عماد الدين خليل، وكذلك ظهرت مجموعةُ كتب حول إعادة كتابة التاريخ أو تنقيحه للدكتور “جمال عبدالهادي”، وكذلك ظهرت مقالات عدة ونداءات متكررة لتنقيح التاريخ وتحقيقه وإعادة كتابته، منها: “الدكتور عبدالحليم عويس، والدكتور أنور محمود زناتي”، بالإضافة للعديد من الندوات والمؤتمرات.
وفي النهاية نحتاج إلى أن نقول: “إن فنَّ تزوير التاريخ وصياغته وَفْقَ الأهواء جاء لعدة أسباب، منها ما سبق ذكره، ولكنَّ أخطرها يتمثَّل في استمرار آثار ذلك لفترات، وهو ما ترك أثره على الأحداث التاريخية حتى يومنا هذا، فالتاريخ في مختلف عصوره يحتاج إلى مراجعة وتدقيق باستمرار لاعتبارات عدة، منها: أن الكتابة التاريخية غالبًا ما تخضع لأهواء المؤرِّخ وانحيازه، واحتمال نقله عن مصادر غير دقيقة، أو عدم الدقة في نقل الأحداث إذا كان المؤرخ معاصرًا لما يؤرِّخ له، فعلى المؤرخ أن يكون ذا بصيرة ووعي في النقل عن المصادر ودراسة سير مؤلفيها للاطِّلاع عن كثب على آرائهم وأفكارهم وميولهم واتجاهاتهم، وليتذكر كلٌّ منَّا مقولة الشافعيِّ:
وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلَّا سَيَفْنَى ويبْقَى الدَّهْرَ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ فَلا تكتبْ بخطِّكَ غيرَ شيءٍ يَسُرُّكَ في القِيَامَةِ أنْ تَرَاهُ
الهوامش
[1] دار القلم، ١٤٢٥هـ، ص١٩٤.
[2] عبدالرحمن الرافعي: “مصطفى كامل.. باعث الحركة الوطنية”، ص 239، 431.
[3] سعد زغلول: مذكرات سعد زغلول، كراس 28، ص1516.
[4] محمد محمد حسين: “الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر”، ص373، 393.
[5] عباس محمود العقاد: سعد زغلول، ص527.
المصدر: “الألوكة”.