عندما نقرأ تاريخ الأمم السابقة والشعوب المندثرة، نظن للوهلة الأولى أننا أحسن منهم في كل شيء، وأكثر حرية منهم، وعندما نتعمق أكثر في قراءاتنا في أحداث التاريخ نستنكر تلك العبودية التي كانت البشرية غارقة فيها، وعندما نضع المجهر على أحوال العلاقات التي كانت سائدة بين مختلف فئات البشر وقتها فإننا لا نشك أن حضارتنا المعاصرة علامة فارقة في تاريخ البشرية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هو: هل هذه الاستنتاجات سليمة وصحيحة؟ هل فعلا نعيش الحرية التي حرمت منها أمم وشعوب كثيرة؛
هل المسلم معني بحديث الحرية؟
إذا رجعنا إلى الأوضاع التي كانت عليها الجزيرة العربية –على سبيل المثال- قبل مجيء الإسلام، فإننا ندرك بسرعة أن قبائل العرب كانت تعيش عصرا يجمع شتى أصناف التخلف والضلال، حيث كانت غارقة في أوحال التوحش وسفالة الاستعباد، وظُلمة القهر، فقد كان استرقاق الإنسان وقتها أسهل من شرب الماء، وكان بيع العبيد وشراؤهم لا يختلف عن بيع الماشية في الأسواق، بل كان سادة الجاهلية يصفون في السوق الواحدة طوابير من العبيد والدواب، وكأنهما جنس واحد، في مشهد عنيف رهيب يعبر عن بشاعة الحياة وقتها.
ولم يكن للحياة الإنسانية قيمة تُذكر، فكان يكفي أن يختلف شخصان لتشتعل الأرض حربا ومعارك طاحنة، تفنى فيها أجيال وأجيال، ذنبها الوحيد أنها وُلدت في عصر أفَلَت فيه الإنسانية، ولم يبق من معالم الفطرة ما ينقذها.
حتى جاءت الرسالة الخاتمة بالتوحيد، الذي يعني من بين ما يعني تحرير الإنسان من عالم الأشياء التي تستعبده، ومن عالم الأشخاص الذين يستغلونه يستصغرونه ويستعبدونه، وجَعله عبدا لله الذي خلقه ووهبه الحياة، وكفل له رزقه، وأكرمه بالعقل. وبعد عقدين وبضع سنوات تغير الحال، وظهر مجتمع جديد، يعرف معاني الحياة ويعشق الحرية، فبعد أن كان المجتمع يئد البنت وهي حية تحول المجتمع إلى جسم واحد قادر على خوض حرب ضارية لأجل حرية شخص واحد، فسيّر المسلمون جيشا إلى بني قينقاع لإهانتهم مسلمة واحدة وقتلهم مسلما دافع عنها، وسيروا جيوشا لتحرير القبائل العربية التي كانت ترزح في أغلال العبودية الرومانية والفارسية، بل مضى هذا العربي -الذي كان يرعى الإبل ويحفل بوضع الأغلال في أيد بشر مثله- إلى تحرير مجتمعات رومانية وفارسية كانت تعاني عذابات الظلم والجور والطغيان.
لقد نجح الإسلام في أن يصنع حياةً تحكمها القيم الحية، والأخلاق الصالحة، ومزق الطبقية التي جاء وهي موجودة في كل العالم، ونزلت الآيات تحث على العتق، فهبت نسائم الحرية تحرك شراع المجتمع وتوقظ فطرته التي طال سباتها، وتطهر ثيابه التي تلطخت بالدنايا، إذن الإسلام معني بالدرجة الأولى بالحرية، ولا يوجد على الأرض ما يماثل الإسلام في حثه على الحرية وحفظه إياها.
الإسلام وطريق الحرية
لقد لاحظ علماء المقاصد هذا المقصد من خلال النصوص الكثيرة التي جاءت تؤكد على ضرورة حفظه وصيانته، حتى نادي بعضهم بجعله من مقاصد الشريعة الكلية مثل الطاهر ابن عاشور، لكن المتأمل في الكليات التي جاء الإسلام لحفظها يفهم أن حفظ النفس وحفظ المال وحفظ النسل وحفظ العقل، وحفظ الدين يدرك بسرعة أن حفظها يعني حفظ حرية الإنسان، فالدين يعني أن يكون الإنسان عبدا لله تعالى، أي حرا من كل الإكراهات البشرية، والعادات الجاهلية الراكدة والوافدة.
الإسلام السور الذي يخشاه الوثنيون
وها هو إنسان اليوم يقع ضحية لديانات وثنية وايديولوجيات ضالة استقوت في عصر الجهل والتجهيل والطغيان، فاستعبدت الملايين تحت مسميات كثيرة، بعد أن دمرت فطرتهم وجعلتها تنتكس، وهاك مثالا واقعيا عن الملايير التي تعيش بين الصين والهند وكوريا الشمالية فهذه الكتلة البشرية الهائلة لا قيمة لها في الحقيقة، بل هي مجرد أرقام جاءت يوما وستذهب يوما في صورة تؤكد أن هذا المجيء والذهاب لا يختلف عن مجيء وذهاب الأنعام في شيء؛ لأن الوثنية جعلتهم مجرد آلات وأدوات في يد الإقطاعيين التاريخيين الذين لبسوا لباسا جديدا، واتخذوا شعارات لا تختلف عن شعارات سابقيهم، فالصين التي يتجاوز عدد سكانها المليار الإنسان يتحكم فيهم ألفا غني يستغلونهم أبشع استغلال؛ بعد أن احتكروا مصادر العيش ووسائل العمل.
الحرية بين عدلنا ودموية تجار الحروب
وحفظ النفس يعني حفظ حرية البشر وحقهم في الحياة، ولن نبحث عن هذه الحقيقة بعيدا، فها هي كتب التاريخ الحديث تذكر أن عدد من قتلوا في الحرب العالمية الأولى والثانية يفوق عددهم تسعين مليون إنسان، ولم تكن وفاتهم لسبب يستحق الموت؛ بل كل ما في الأمر أن هؤلاء الضحايا في هذا الجزء من العالم وقعوا تحت نير ايدولوجيات لا تعطي للحياة والحرية قيمة، في سبيل تحقيق نزواتها وإرضاء رغباتها الوحشية؛ لأجل هذا جعل الإسلام الحياة مقدسة، لا يجوز المساس بها إلا في حالات خاصة جدا ووفق شروط صارمة.
ولعل الكثير من الشباب الحالي لم يقرأ قصص العنصرية والعبودية في القرنين الماضيين، حين كان الرجل الأبيض يعتبر حياة السود والمسلمين ملكا له، يفعل بها ما يشاء، وينهيها وقتما أراد، ففي جنوب إفريقيا حدثت قصص رهيبة خلال القرن العشرين تجسدت في أركانها السفالة الوحشية، فقد أمسك رجل أبيض لا يعرف معنى الحياة، ولا يعرف معنى العدل والحرية برجل أسود، ووضعه على الأرض بمساعدة رجاله؛ استعدادا لذبحه، فلما أراد تمرير السكين عضه الرجل، فقال جملة تهتز الأرض والجبال منها، لكنها تختصر ذلك العصر المظلم، قال: “أريد أن أذبحه وهو يعضني” فانظر إلى دموية الإنسان عندما تسيطر عليه نوازع الشرّ، وتقتل العنصرية الملعونة فطرته، فيستحل دماء من يختلفون عنه في البشرة فقط. قصة تحكي جانب مظلما من جوانب هذه الحياة التي غاب عنها الإسلام وسيطر عليها قانون الغاب.
ولو رجعنا إلى التاريخ الإسلامي في بداياته لوجدنا عجبا، الخليفة عمر يرفض قتل أبي لؤلؤة المجوسي الذي لمّح إلى قتله، وفهم الفاروق –رضي الله عنه- ذلك، وقال: “يتهددني العلج”، لكنه لم يقتله بل ولم يحاكمه؛ لأنه لا يملك دليلا صريحا واضحا على أن المجوسي يخطط لقتله، فأي عظمة هذه؟، وهؤلاء أهل حمص الذين عاشوا تحت رماح الروم، يرون القائد الفذ خالد بن الوليد –رضي الله عنه- يسحب جيش المسلمين الذي لم يثر في أنفسهم رعبا، ولم يحدث في مدينتهم دمارا، ويرد إليهم أموال الجزية، يقولون للجيش المنسحب استعداد لمعركة على أطراف الشام: “ردّكم اللهُ إلينا، ولَعَنَ الله الذين كانوا يملكوننا من الروم، ولكن والله لو كانوا هم علينا ما ردُّوا علينا، ولكن غصبونا، وأخذوا ما قدَرُوا عليه من أموالنا، لَوِلايتُكُم وعدلُكم أحبُّ إلينا مما كنا فيه من الظلم والغُشْم” انظر إلى عشق البشر للحرية، وتأمل كيف صار العربي الذي كان يقتل ويقاتل لعقود من أجل أسباب تافهة يعرف معاني الحرية والاحترام، وينشر عبيرها في كل فج وحي وزاوية يصل إليها.
وهاهم المسلمين يفتحون مصر ويتركون نصارى الأقباط فيها، لم يهجروهم، ولم يشردوهم.. ولو كان الإسلام دينا غير معني بالحرية لما وجدنا النصارى في مصر والشام مثلا، بل إن بقاءهم يرجع أساسا إلى معاني الحرية التي غرستها فيهم عقيدة التوحيد، وها هو الفاتح محمد يدخل أكبر كنيسة في القسطنطينية فيجد أهلها متحصنين داخلها، فيضمن لهم حياتهم وحريتهم ولا يمسّ شعرة منهم، فمن علّم هذه الجيوش الانضباط أمام مقصد الحرية، حرية المعتقد، وحرية الحياة؟ لاشك أنها الرسالة الخاتمة هي التي جعلت هؤلاء البشر يكفلون للحرية أن تُصان وتبقى حاضرة بقوة ومزهوة في معابر الحياة ومساكنها.
وها هي بلاد الشام يقتل أهلها ويشرد أحياؤها وتدمر حواضرها؛ لأن طغاة الوثنية العلوية والوثنية الفارسية والأرثوذكسية الروسية، والمكر الكاثوليكي، وال
الأسرة معقل الحري:
أما حفظ النسل فيكفي أن الإسلام نظّم الحياة وأعطى للناس مراكز اجتماعية قانونية مبنية على الحقوق والواجبات، وجعل الأسرة أقدس أقداس المجتمع، فهي أساسه الذي يجب أن يكون سليما، ومن بين المسائل الهامة التي تجدر الإشارة إليها تحريم الإسلام الزنا، التي تنجر عنها أضرار كثيرة، أهمها مجيء أولاد غير شرعيين إلى الحياة، لم يكن لهم ذنب كبير سوى أنهم وقعوا ضحية طيش طائشين، وعند تأمل حياة هذه الفئة، نجدها تعاني ظلما رهيبا من المجتمع، فتقع أسيرة حقده، وتظل تهرب من النظرات الحقيرة التي تشعرها أنها أقل كرامة وحرية من الآخرين، فجاء الإسلام ليقطع الطريق على هذه العذابات والإهانات التي تنتج عن جرائم أصحابها لا يتمتعون بحس إنساني ولا أخلاقي؛ لذلك كان تنظيم مسألة الزواج فيه تحقيق لسعادة أجيال جديدة، وصيانة لكرامتها من خلال صيانة أنسابها، فيحفظها قبل أن تأتي وعندما تأتي وعندما ترحل.. ويحفظ للجميع حقهم في الزواج بمن يرضون، فيرفض أن تُكره المرأة على الزواج بمن لا ترضى أن يمسها أو يلمسها، وكيف لا يفعل والمسألة تتعلق بأغلى ما تملك، أي جسدها، وهل يعقل أن يعطيها الحرية في التجارة ويضمن لها ذمة مالية مستقلة، ثم يأتي من يدعي أنه يجوز لإنسان آخر مهما كانت مرتبته أن يكرهها على العيش تحت سقف واحد مع من تقتله أنفاسه في ذلك البيت، إنه الإسلام دين الفطرة، الذي لا يناقض الطبيعة البشرية، يرصد الكمائن التي توضع في طريق الحرية فيدمرها ويغلق الطريق على كل من تسوّل له نفسه حَفْرَ حُفرٍ للسائرين في هذه الحياة.
الجهل سفاح الحرية
كان الجهل عبر التاريخ السبب الأول في وجود الطبقية والعبودية والتوحش، فقد كانت الأميّة السمة الأبرز لأهل الجاهلية، وهي التي جعلت بعضهم يصبح طاغية في حيه وقبيلته، وحوّلت بعضهم إلى عبيد راضين بعبوديتهم، ومسخت فطرة الأب وحوّلته إلى قاتل لأعز ما يملك، فلم يتمدد التوحش فيهم إلى بعدما فشا فيهم الجهل الذي احتل عقولهم وأبصارهم وفطرهم فحوّلهم من الآدمية إلى البهيمية، وعندما أهملت الشعوب العلم والوعي احتُلت وخضعت، ولم تتحرر إلا بعد أن وعت دروس الحياة، وذاقت مرارة الخنوع وفقدان الحرية؛ لأجل هذا حرص الإسلام على وقاية البشرية من هذا الوضع التعيس الذي تنزلق فيه الحياة نحو الظلم والقتل والرداءة، فأمر بإشاعة العلم، وجعل طلبه واجبا على الرجال والنساء، وتوعد بالنار على كتمان العلم.
وقصة اشتراط النبي -عليه الصلاة والسلام- على الأسرى أن يعلموا المسلمين القراءة والكتابة مقابل حريتهم، فيه درس بليغ للبشرية جمعاء، وللمسلمين خاصة، فلولا تمكن هؤلاء الأسرى من فعل القراءة والكتابة مكنهم من أخذ حريتهم، وكأنها إشارة ورسالة إلى أن العلم سبيل إلى الحرية.
وها نحن اليوم نخضع للآخر المختلف عنا في أشياء كثيرة، أهمها أنه لا يقدس الحياة مثلما نقدسها، نخضع له ونشتري منهم الطعام والدواء واللباس والسلاح؛ لأننا لم نهتم بالعلم ولم نأخذ بنواصيه. وهذا يظهر بوضوح أن معادلة الحرية لا يمكن أن تكون صحيحة دون الاهتمام بالعقل وتغذيته بالعلم النافع.
الحرية ورجال المال
المال عصب الحياة، ويسعى جميع البشر إلى اكتسابه، فعليه تقوم مختلف التعاملات الحياتية، ومن خلاله تُقضى مصالحهم؛ ونظرا لأهميته البالغة، وحب الإنسان إياه، نظّم الإسلام شؤونه تنظيما دقيقا يراعي حرية البشر وكرامتهم، فحرم الاحتكار، ومنع الربا، وشنّع أمر الرشوة، وقبّح الغش والتدليس، وجعل التعاملات المالية مبنية على أسس العدالة والرضى، بين مختلف البشر، وأعطى للفرد حق تملك المال، لكنه يؤكد على أن هذا الحق يجب ألا يكون على حساب المجتمع؛ لهذا يتدخل في حال اضطرب توزيع الثروة في المجتمع؛ حتى لا يصبح هذا الفرد وحشا يفترس أمال الناس في رؤية حياتهم كريمة، حتّى لا يصبح هذا الفرد فرعونا في المجتمع يسوم الناس سوء العذاب، ويرهن حريتهم، والواقع اليوم يؤكد هذا الطرح فالبنوك الربوية والعائلات المالكة لتريليونات الدولارات سبب لفقر ملايير البشر، وطغيان الفقر يعني وجود فئة تستأثر بالمال، وبالتالي تستعبد هؤلاء.
الطريق نحو الحرية يمر من هنا
الحرية تحتاج إلى وعي وفهم، وما مر محاولة لإحياء فقه الحرية، تلك الحرية التي تجعلنا أحرارا من أثقال عالم الملذات وأغلال الشهوات؛ التي تجعلنا ندمر كل القيم في سبيلها؛ لأجل هذا كانت مهمة الأنبياء -عليهم السلام- وهم صفوة البشر تعبيد الناس لخالقهم ورازقهم، وتحريرهم من نزواتهم ونوازع الشر التي إذا استقوت استعبدت الإنسان وجعلته وبالا على أخيه الإنسان..
المصدر: نوافذ.