القرآن الكريم يقدم موقفه من النصارى بوجهيه معاً، وذلك هو العدل الإلهي في التعامل مع “الآخر”؛ ألَّا يكتفي بالتقاط الصورة من جانب واحد، وإنما هو يدير “الكاميرا” على الوجه الآخر؛ لكي يعطي تقييمه الموضوعي العادل، وليس كما يتصور السذّج والخبثاء من أن القرآن يناقض نفسه، وحاشاه، فهو ممحض للحق مع الخصوم والاتباع معاً.
إنه يقول تقييماً لرهبان النصارى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ {82} وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ {83}) (المائدة).
لكن هذه الصورة المضيئة عن الرهبان الذين أذعنوا للحق لا يمنع من تقديم الصورة المعتمة عن أولئك الرهبان الذين يكنزون الذهب والفضة، ويأكلون أموال الناس بالباطل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ {34} يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ {35}) (التوبة).
وفي مقطع آخر ينزل كتاب الله غضبه القاصم على النصارى الذين قالوا: إن المسيح ابن الله (وحاشاه)، والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح بن مريم أرباباً من دون الله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {30} اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {31} يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {32}) (التوبة).
ثم يعود كتاب الله سبحانه وتعالى لكي يقدّم تصوّره العادل للرهبانية النصرانية في جانبيها المضيء والمظلم على السواء: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ {27}) (الحديد).
الموقف الوسطي العادل يكرر نفسه مع اليهود، أولئك الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألحقوا بدعوته المتاعب والمنغصات، وحشدوا لضرب دولته الإسلامية الحشود والأعداء، بل قبل هذا وذاك وقفوا المواقف الخبيثة المسمومة، نفسها، تجاه أنبيائهم، ودينهم، وعقيدتهم؛ فقتلوا وحرّفوا وطمسوا على الحقائق، ووصل بهم الأمر إلى أن يلتوي سلوكهم مع أنفسهم ومع الآخرين، ويصل بهم إلى الطريق المسدود، الذي لا يرجى معه شفاء.
والقرآن الكريم يقدم عن هذه الممارسات السافلة لليهود عبر التاريخ الكثير، بدءاً من المساحات الكبيرة التي تتحدث عن سلوكهم الملتوي هذا في سورة «البقرة»، وحتى مقاطع القرآن الأخيرة، لكن هذا كله لم يمنع كتاب الله أن يقف مدافعاً عنهم، مبرّئاً ساحتهم من تهمة كاذبة ألحقها بهم بعض المحسوبين على المعسكر الإسلامي من المنافقين والضلال، منزلاً غضبه القاصم عليهم، متوعداً إياهم أن يعودوا لمثلها بكلمات تقدح شرراً وناراً (وقد عرضنا لهذا الموضوع بالتفصيل في بحث: الحياة التي يريدها كتاب الله).
بين العبادة وطلب الرزق:
في المقطع الأخير من سورة “الجمعة”، نلحظ التوازن المرسوم نفسه، ذلك الذي اعتمدته كلمات الله في التعامل مع الأمور؛ الدعوة الصارمة للتفرغ للعبادة وذكر الله، يوازيها أمر لا يقل صرامة للانتشار في الأرض وابتغاء الرزق، فبدون ذلك التوازن بين المطلبين، بدون تنفيذ مطالبهما بالجد المطلوب؛ لن يتحقق المؤمنون بالفلاح في هذه الدنيا التي أريد لها أن تكون مزرعة للآخرة، وساحة – في الوقت نفسه – للبناء والإنجاز والعمران على عين الله.
ولنقرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {9} فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {10} وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ {11}) (الجمعة).
(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) بحرف الفاء الاستئنافية التي تختزل الزمن والمكان، ولا تترك أي مساحة متطاولة بين نمطين من الأفعال، أحدهما تعبدي، والآخر تجاري.
ورغم ذلك، فإن هنالك في المنطوق القرآني أولويات معينة، تجعل من العبادة وذكر الله أساساً عميقاً متيناً تنهض عليه سائر الفعاليات، ومن ثم كان أي تهاون أو تساهل في هذه الحقيقة تعدهما كلمات الله لهواً وانفضاضاً عن هذا الهدف المركزي، الذي تغدو معه التجارة لهواً يتحتم ألا ينسحب المؤمنون إليه تاركين العبادة وذكر الله.
الأمر نفسه نلحظه في الآية الأخيرة من سورة «المزمل»: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {20}) (المزمل).
فها هنا أيضاً تلتقي كفتا الميزان؛ عبادة الله، والسعي في الأرض وابتغاء الرزق، والجهاد في سبيل الله، والاضطرار – بسبب الأوجاع والأمراض – إلى تقليص مساحة العبادة.
إن القرآن الكريم عندما يصدر أوامره، يلاحظ بالرؤية الإلهية العادلة كل الحالات التي يتقلب فيها الإنسان، كل المطالب التي تلح عليه في أن يستجيب لندائها، ومن ثم يعطيها المساحة المناسبة من أجل أن تمضي الحياة الإسلامية إلى غاياتها دونما أي قدر من الخلل أو الميل أو الانحراف.
إن إقامة الليل، وتلاوة القرآن، لهما هدف المؤمنين في هذه الدنيا، ولكن ماذا لو تفرغوا جميعاً لهذه المهمة فأهملوا الحركة في الأرض طلباً للرزق، وتخلوا عن الجهاد في سبيل الله، ومارس المرضى منهم نوعاً من تعذيب الذات بحجة التقرب إلى الله؟ ألا يقود هذا إلى تعطيل عجلة الحياة، وإصابتها بالمتاعب والشروخ؟!
إن الدلالة الزمنية التي ينطوي عليها هذا المقطع لتوحي، بأسلوبها المؤثر، بضرورة تقدير المؤمنين للزمن، وتقسيمه العادل، استجابة لمطالب الدين والدنيا معاً، إذا أردنا فعلاً أن نجعل من الدنيا طريقاً معبداً للآخرة.
الدنيا بين التفاخر والإعمار:
وطالما حدثنا القرآن الكريم عن تفاهة الحياة الدنيا، وأنها زينة وتفاخر، وبأنها متاع الغرور، وعرض لسرعتها وانصرامها، فكأنها لحظات من عمر الزمن، واصفاً إياها بأنها يوم أو بعض يوم، وبأنها ليلة أو ضحاها، وبأنها أشبه بحفل للتعارف ما يلبث بعد ساعة أو ساعتين أن ينفض، حيث ما تلبث أسماء المتعارفين أن تنسى، وتضيع ملامح وجوههم.
لكن هذا كله لا يعدو أن يكون أحد وجهي التصوير القرآني للحياة الدنيا، ويبقى ثمة الوجه الآخر؛ الإعمار والتنمية وتوظيف الخبرات العلمية للنهوض الحضاري، فيما نجده في كل الآيات المتعلقة بالتسخير والاستخلاف والاستعمار (بدلالته اللغوية وليست الاصطلاحية)؛ (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)؛ أي خلقكم في هذا العالم لتنميته وإعماره من أجل أن يكون بيئة صالحة لعبادة الله تعالى، بدلالتها الحضارية وليست الطقوسية الشعائرية، حيث يصير كل فعل يمارسه الإنسان عبادة يتقرب بها إلى الله، فيما يذكرنا بحديث الرسول المعلم عليه أفضل الصلاة والسلام: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر».
العمل والإعمار وزراعة الأرض ماضٍ في المنطوق الإسلامي حتى اللحظة الأخيرة من عمر الحياة البشرية، وحتى لحظة النفخ في الصور.
فأي توازن مدهش هو هذا بين «تصغير» الحياة الدنيا (ولنلاحظ كلمة الدنيا هذه) في عيون المؤمنين من أجل ألا تأسرهم عن المضي بعيداً فيما وراءها، من آخرة، ومن حساب وثواب وعقاب، وبين «تكبيرها» من أجل ألا يتركوها للآخر، فيتمكن منها، ويحكم قبضته على رقابهم، ويسومهم سوء العذاب؟!
أي توازن مدهش هذا بين أن نضع الآخرة نصب أعيننا ونركل الدنيا بأقدامنا، فيما يذكرنا بعبارة النفّري في كتابه «المواقف والمخاطبات»: «يا عبدي إذا قمت إلى الصلاة فاجعل الدنيا كلها تحت قدميك»، وبين أن نقدّرها حق قدرها باعتبارها الفرصة الوحيدة لاختبارنا، ولتمكيننا من تنفيذ مشروعنا الحضاري الذي يلتقي فيه، من بين سائر المذاهب والأديان؛ الوحي بالوجود، والدنيا بالآخرة، والله سبحانه بالإنسان، والروح بالجسد، والفرد بالجماعة، والعدل بالحرية، والإيمان بالعلم، والمنفعة بالجمال؟!
أي توازن مدهش هذا الذي يمسك كتاب الله من طرفيه فيقدمه للناس في أوضح صورة، وأشدها إقناعاً، وأكثرها عذوبة وجمالاً؟!
هذه مجرد شواهد قرآنية ستة، وغيرها العشرات والمئات منبثة في ثنايا كتاب الله، على الرؤية القرآنية العادلة، المتوازنة، التي تعرف بعلم الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، كيف تتعامل مع كل حالة وفق مكوناتها وأطرافها جميعاً، أفتنقضي عجائب هذا الكتاب؟!