كثرت في القرآن الكريم الآيات المحكمات الآمرة بالاجتماع والناهية عن التفرق، وكثرت مثلها الأحاديث الصحيحة البليغة في السنة النبوية الشريفة، فأصبحت الوحدة من المسلمات حتى استقرت في ضمير كل مسلم، وأصبحت الجماعة والاجتماع من مبادئ الدين وأساسياته، ففي الكتاب العزيز قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (آل عمران 103).
اعتبر الإسلام وحدة الأمة من أعظم أصوله، ومما عظمت وصية الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم به، لأنها من أهم عوامل قوتها وتحقيق غاياتها، وضمان عيشها بأمن وطمأنينة، فبها تكون مرهوبة الجانب مهيبة الحمى عزيزة السلطان. لذا نهى الله عز وجل عن التنازع والاختلاف الذي هو ضد الوحدة والاجتماع، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال: 46).
وحذر سبحانه من محنة الفرقة فهي سبب الهلكة، وإذا كان الاختلاف والتفرق من أكبر المحن التي ابتليت بها هذه الأمة في هذا الزمان، ومن أصعب المصائب التي حلت بها وفتَّتْ في عضدها، وأطاحت برايات مجدها، فإن الاختلاف والفرقة بين أبناء الشعب الواحد والوطن الواحد من أعظم الكوارث والنوازل التي تحلّ به.
تقوية أركان الأمة
حرص الإسلام على تقوية أركان الأمة وتضافر قواها، فعمل على ترسيخ وحدتها بكل الوسائل، فجمعها على عقيدة واحدة وعبادة رب واحد، قال عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء 92). وبنى أحكامه وتشريعاته جمعا لأبناء الأمة وتعويداً لهم على الوحدة والتماسك، فشرع صلاة الجماعة والجمعة والعيدين ليديم في الأمة روح الوحدة ويقوي أصولها، وشرع أوسع اجتماع لأكبر عدد من المسلمين يمكن حضوره يوم الحج الأكبر في صعيد عرفات، وتشريعات أخرى كثيرة.
وهذه الدعوة إلى الوحدة والأخوة أساسها الاعتصام بعهد الله ونهجه، وليست مجرد عدد من الأشخاص يجتمعون على بقعة من الأرض بغير ركيزة أو هدف، وهي نعمة عظيمة ومِنَّة ثمينة وهبها الله تعالى للمؤمنين أنْ جمع قلوبهم المتنافرة، ووحد صفوفهم المتناحرة.
ومعلوم أن هذه النعمة لن ترضي الأعداء المتربصين بالأمة، ولن توقف مكائدهم وأحقادهم ضدها، بل سيجتهدون في بعث الأحقاد والنبش عن الأخطاء، وهنا يجب الحذر البالغ من الفرقة وعاقبتها، وفي التاريخ عبرة تستخلص ودرس يستفاد، فمن الأمم من حملت منهج الله لكنها تفرقت وتنازعت واختلفت على الثوابت والأصول رغم وضوحها، ولم تعد أهلاً لهذه التبعات والمسؤوليات، فانتزعت منها الراية ليتسلمها من يمتلك الأهلية والاقتدار، قال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (آل عمران 105).
اهتمام السنة المشرفة بالوحدة
وأما في السنة المشرفة فالحرص عظيم على الوحدة، فها هو صلى الله عليه وسلم يحذر امته الخلاف والفرقة، ويحثها على الاجتماع والوحدة، وينذر من يخالف وينشقَّ{بأن يلقى الله تبارك وتعالى وليست له حجة} رواه أحمد، ويعتبر مفارقة الجماعة قرينة للكفر والشرك، لما يترتب عليها من إضعاف الصف وتضييع الهدف، قال صلى الله عليه وسلم “ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية” رواه البخاري، وهذا مما يغضب الله تعالى، فلا يرضيه عز وجل غير وحدتنا واجتماع كلمتنا، قال صلى الله عليه وسلم: “إن الله يرضى لكم ثلاثاً… وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا” رواه مسلم، فالتماسك في الجماعة هو من أول أسباب النجاة، قال صلى الله عليه وسلم: “عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية” رواه أبو داود. وفي كل عصر وزمان تحتاج الأمة تعزيز وحدتها وترسيخ جماعتها.
وتأتي أهمية الوحدة أنها أساس كل خير في دنيا الناس وآخرتهم، فهي سر قوتهم وأول عوامل رقيهم ورفعتهم بين الأمم، فوحدة أمتنا واجبة وضرورية لمواجهة التحديات والأخطار التي تحدق بها من كل جانب، ولو نظرنا إلى ما تملكه من الثروات لكنا على يقين بأن وحدتنا تجعل منا أكبر قوة مؤثرة في العالم كله.
الفرقة موجبة غضب الله
أما الفرقة فهي موجبة غضب الله وبراءة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال ربنا عز وجل{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الأنعام 159، فاختلاف الكلمة أقوى معول هدم يقضي على الأمة، وأخطر الآفات التي تلقي بها في مهاوي التهلكة وتجرها إلى وحل المعصية، ففي أجواء الخلاف والاختلاف تضعف الأمة ويغلبها أعداؤها، وأسوأ نتائجها الضياع وغلبة الأعداء، وحلول الذل والهوان بأبناء الأمة في كل مكان.
ومن يتصفح تاريخ الأمم والشعوب يرى أن الأعداء ما اجتاحوا أمة وتمكنوا منها إلا إنْ مزقوا وحدتها وفرقوا كلمتها، وتلك دوماً سياسة الاستعمار، فالفرقة أقوى أسلحة الدمار الشامل لأية أمة، فنفذ سياسته القائمة على مبدأ “فَرِّق تَسُد”، وقبل أن يغادر الدول المحررة ترك وراءه عوامل التنازع والاختلاف فيها حتى لا تقوم لها قائمة.
وأمتنا كغيرها من الشعوب والمجتمعات إن لم تحذر فسيصيبها ما أصاب غيرها، فالسنّة الماضية في حياة البشرية لا تتوقف؛ أن الحُزمة لا تُكسر مجتمعة؛ وأن الجماعة تُهزم بالفرقة والتفتت، فبالوحدة نبلغ درجات الرقي والمجد؛ أما التفرق والشقاق فجريمة كبرى لأنه يقوّض بنيان الأمة وينتج الفشل وذل الهزيمة.
عبرة التاريخ
وإن لنا في التاريخ لعبرة؛ فما كان عليه الآباء والأجداد والسلف الصالح من عز وشرف ومجد وقوة قهروا بها الجبابرة وأسقطوا عروش الظلم والاستبداد والاستعباد إنما هو ثمرة الوحدة والتماسك، وأما ما عليه الأمة اليوم من ضعف وهوان وسيطرة الأعداء على مصادرها ومصائرها فهو نتيجة الفرقة والشقاق والنزاع، فإذا أردنا الاستقلال والاستقرار والقدرة على اتخاذ القرار، فعلينا الاعتصام بحبل الله المتين والاجتماع على كلمة الحق والدين، وألاَّ يخرج أحدنا عن الصف، بل ينتصر على عوامل الضعف، وإلا فسنكون أضعف من أن نحمي حقاً وأعجز عن أن نحقق نصراً.
إن مرابطتنا في أرضنا المباركة تحتم علينا توجيه الجهود لوقف ممارسات الاحتلال ضد شعبنا ومقدساتنا وبالأخص المسجد الأقصى المبارك الذي نمنع الصلاة فيه ومدينة القدس التي تتعرض لمخاطر التهويد، والالتفات إلى الأهداف العظيمة لشعبنا في دحر الاحتلال عن أرضه ونيل الحرية والاستقلال وإقامة دولته ذات السيادة وعاصمتها القدس.
إن بناءَ الوحدة الأُخَويَّة الإيمانية بين المسلمين على الأصول المشتركة واجتماع الكلمة ضمانٌ لديمومتها، وحماية لها من التصدع والانهيار، فإذا كانت الوحدة مبنية على هذه الأصول الثابتة غير القابلة للتغير، فستكون حتماً راسخة ثابتة مستقرة لا تتغير بالمتغيرات، ويكون أهلها بمأمن من الفرقة والاختلاف، وبمنجاة من الضعف والاستضعاف. فليعلم أبناء شعبنا أن عدوّهم لن ينال منهم إلا إذا تفرقت قلوبهم؛ فالتفرق ثمرة اختلاف الثوابت وتنازع القيادات، وعنوان ترجيح الذات وطاعة الهوى والإصرار عليه على الرغم من وضوح الحق.
وقد حذرنا صلى الله عليه وسلم الخروج عن النهج القويم؛ فقد “خطّ خطاً بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيماً، ثم خطّ عن يمينه وشماله ثم قال : هذه السبل وليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}” الأنعام 153 (رواه الدارمي.
الوحدة ليست مجرد شعار
إن الوحدة ليست مجرد شعار نتغنى به ونرفعه لنباهي العالم، بل هي تكليف أوجبه الله علينا، وفريضة شرعية أمرنا الله عز وجل بإقامتها، فإذا كانت بحق الشعوب الأخرى ضرورة وطنية لضمان أمنها واستقرارها؛ فهي بحق شعبنا ووطننا وقضيتنا العادلة مسألة حياة أو موت، لأننا بتفرقنا وتنازعنا لا نشكل أي هاجس خوف لأحد، فاختلافنا وتنازعنا ينبغي أن يكون مع الاحتلال فقط.
ولعل أسطع برهان على ما أقول موقف أبناء شعبنا الفلسطيني الأبطال في المسجد الأقصى المبارك: المقدسيون وأبناء الأرض المحتلة عام 48 ومن تحدوا إجراءات الاحتلال فجاءوا من أنحاء فلسطين، فرض هؤلاء الصناديد بوحدتهم وتماسكهم وإصرارهم على مطالبهم وحقوقهم معادلة جديدة صادمة وقاهرة للاحتلال؛ فهزمته وأجبرته على التراجع عن إجراءاته الظالمة، وما ذاك إلا أنهم رأوْا بأنفسهم رأي العين مرارة الاختلاف والانقسام الذي يصب في مصلحة الاحتلال الجاثم على صدورهم وعلى أرضهم.
إن معركة الأقصى قد بدأت ولن تنتهي إلا بالنصر والتحرير، فمدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك هما مركز الصراع بين الأمة كلها والمشروع الصهيوني، وهما هوية أرض فلسطين العربية والإسلامية.
أما الاحتلال “الإسرائيلي” الغاشم فهو يراهن منذ زمن على اختلافنا وتنازعنا لفرض سيادته على المسجد الأقصى المبارك وعلى مدينة القدس تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية بصورة نهائية.
فالوحدة الوحدة يا أبناء شعبنا البطل في كافة مواقعكم وإياكم أن يظفر عدوكم بالرهان، وحذارِ ثم حذارِ من إحباط الانتصار الذي حققه المرابطون والمرابطات بصبرهم وثباتهم واتحادهم على أبواب المسجد الأقصى المبارك.
المصدر: موقع “الأمة”.