قد لا تختلف كثيراً في ثقافتك الإسلامية مع العلمانية الحقة بمفهومها العلمي الإيجابي، حيث تتحقق فيها الحرية واحترام الآخر دون الالتزام بمعتقده ودون محاربته أو تسفيهه أيضاً بل والدفاع عن تمتعه بتلك الحرية شريطة أن لا يفرض دينه أو ايديولوجيته على أحد.
كما إن من مستلزماتها كما طبقت في الغرب الديمقراطية التي أغنت أوروبا عن قرون من الصراع وأنهار من الدماء والدمار والتناحر لم تتوقف إلا بعد تحكيمها للمنهج الديمقراطي في الإدارة اليومية وتداول السلطة والفصل بين السلطات وجعل السلطة للشعب، لكن المشكلة في فهم العلمانية عندنا نحن العرب فقد كانت عند بعض العرب وبسبب الخلاف المستأصل والنزاع الذي يراد له التأييد، وبسبب نفي الآخر النفي المتبادل طبعاً جاء تعبير العلمانية بمعنى محاربة الدين أو جعلها في مواجهة الدين وهذا غير صحيح على الإطلاق.
وصرفت الأنظار في منطقتنا العربية الواسعة إلى تطبيق أتاتورك للعلمانية في تركيا حيث مثلت محاربة الإسلام واللغة العربية والسعي لاستئصال التدين بكل أنواعه وأشكاله والاستهزاء في المتبقي منه.. وعلمانيته ليس لها من العلمانية إلا الاسم.
حتى غدا الناس في بلادنا ينفرون من مجرد مصطلح العلمانية ويربطونها بالإلحاد وبمعاداة الدين بعد التحلل منه سيما، وشعوبنا في غالبيتها العظمى مسلمة أو مسيحية في المنطقة العربية.
الكل يحتاج إلى مراجعات في الموروثات والتدقيق فيها وتصويبها وفق منهج علمي مجرد دقيق.
والكل يحتاج إلى تطمينات حقيقية ثقافية وتطبيقية على أرض الواقع، والكل مطالب بتجنب العبارات والمصطلحات الشمولية التي تعمد إلى التصميم في المواقف والأحكام واختيار أحسن التعابير والألفاظ وممارسة الشراكة الحقيقية في الجوامع العامة دون حرمان من الخصوصيات ليمارسها الناس حسب قناعاتهم.
والمُطَمئِن أن في نصوص الإسلام من مصادره الأساسية وتطبيقات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم مساحات واسعة لهذه المفاهيم الإيجابية ابتداء من “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”، ومروراً بوثيقة المدينة المنورة المكونة من (52) مادة، وانتهاءً بقواعد عمر بن الخطاب الخليفة الراشد وكل من رشد من علماء المسلمين وحكامهم وسياسيّهم.
كما نجد الصورة معقولة ومقبولة جداً في تطبيقات معظم الغربيين للعلمانية في التعامل بين المواطنين والمقيمين في تلك الدول بل وتجد أن فهمهم لهذه المسألة مكنهم من شهادة الحق والوقوف مع المظلومين واحترام عقائد الآخر وتصرفاته في أحيان كثيرة.
وفي الوقت الذي أصبح واضحاً للعيان أنّ المخططات الصهيونية التي توقظ جميع الخلافات الموروثة وتصنع ميادين جديدة للخلاف والتمزق المجتمعي الذاتي لتبقى قضايا امتنا مفتوحة للنزاع والصراع، والمستفيد الأكبر والوحيد هو عدو الامة والاستبداد والدكتاتورية والظلم والهوان، من أجل أن نبقى في ذيل قافلة الأمم هذا إن سمح لنا بذلك وإن لم يكن المطلوب هو شطبنا جميعاً عن الخارطة.
فهل نحن منتهون ؟ بكل ألواننا وتقسيماتنا ؟ آمل ذلك ولن نيأس..
روى لي أحد الأصدقاء القادمين من لندن موقف القضاء البريطاني من الشيخ (رائد صلاح) عندما اتهمته وزيرة الداخلية البريطانية حينها – رئيسة الوزراء الحالية ـ بالتطرف، وروى ما يشبه الخيال وهو حقيقة، حيث أصر (صلاح) على ممارسة حقه في الدفاع القانوني عن هذه التهمة، وأصر على سماع كلمة القضاء، فوفرت له الدولة بيتاً يسكنه، وحينما استقدم أهله أعطته بيتاً أوسع مساحة مجاناً، ولما قضت المحكمة بعد شهور ببراءته نال تعويضاً عما تعرض له من إبعاد عن وطنه وعن معاناته…
• الذي لا يقدس الحرية ليس علمانياً فإن كانت الدعوة عدم تدخل السماء في إداريات الحياة اليومية فهل يكون تقديس تدخل البشر وتسليط دكتاتوريتهم على حريات الناس ؟
• كما أنّ الذي لا يقدس الحرية من المسلمين يتجنى على الإسلام أو لا يفهمه أصلاً.
ولو تجاوزنا التطبيقات المشوهة للعلمانية والفهم القاصر للشرائع، وتخلصنا من الأنانية لالتقينا جميعاً لبناء دولنا وأمتنا.. وعلينا جميعاً التوقف والمراجعة.