الروهينجيا معروف أمرهم، أما المخادعون فهم كل الذين ساهموا في خلق ذلك القتل العرقي الإجرامي في القرن الحادي والعشرين، سواء أكانوا سياسيين أو كنسيين، فالفريقان مدانان بتواطؤهم في الجريمة بالإعداد لها وتنفيذها.. ولكي ندرك المأساة التي لا توصف لهذا الإجرام وكيفية تكوينه، لا بد من الرجوع عدة عقود: منذ أن حصلت ميانمار/بورما على استقلالها من الاستعمار البريطاني سنة 1948 ـ وهو نفس العام الذي تم فيه إنشاء الكيان الصهيوني المحتل لأرض لفلسطين…
وكنتيجة منطقية، انفجرت حرب أهلية في عدة أماكن، قادها المستعمر وأعوانه ضد المقاومة… وفي نوفمبر 2015 أجرت بورما انتخابات “ديمقراطية” انتصرت فيها أونج سان سو كي، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام سنة 1991، بعد أن تم ترويضها كعميلة للمستعمرين الكبار، لتجسد المرحلة الانتقالية للديمقراطية في ميانمار، وذلك كثمرة لعقود طويلة من المساندة والتكوين والتجنيد الأمريكي/البريطاني/الأوروبي…
والسيدة أونج سان سو كي وحزبها الموالون للغرب، حصلوا على عشرات الملايين من الدولارات الأمريكية/ البريطانية/الأوروبية. بينما تقول مصادر أخرى أنها ملياران ونصف المليون. وبذلك تم إنشاء جبهات كاملة وتم تقديمها على أنها منظمات غير حكومية، من أجل نسف وتدمير المؤسسات الوطنية في ميانمار.
وقد انهال قادة جيش ميانمار في عملية شراء واسعة النطاق من المصانع الحربية الصهيونية، وذلك بنهم غير مسبوق، كما التقوا برئيس الدولة ورئيس الأركان الصهيونيان، غير عابئين بجرائم الحرب التي اقترفها هؤلاء الصهاينة في حق الفلسطينيين أو استيلائهم الاستعماري لأرض فلسطين، بموافقة العالم الصهيومسيحي المتعصب. وقد قام المدعي الإسرائيلي إيتاى ماك وفريق من المناضلين من أجل حقوق الإنسان بتقديم تقرير يزخر بالأدلة القاطعة على الجرائم التي تم اقترافها وعلى العلاقات الهامة التي أقامها القادة العسكريون البورمانيون والكوادر العليا للحكومة والجيش الصهيوني، أي الباب الخلفي/الأمامي للولايات المتحدة الأمريكية.
والحكومة في بورما لا تسيطر على قوى الأمن الخاضعة للدولة ولا على الميلشيات الخاصة الخاضعان للعصابة التي تحكم البلد. وهي القوى التي تواصل قيامها بجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في كل مكان بالبلاد ضد الأقليات المسلمة. وتواصل القيام بجرائم حرب وانتهاك للقانون الدولي في مناطق الصراع حيث يتم القتل والاعتقالات والتعذيب والاغتصابات على نطاق شاسع ضد المدنيين المسلمين، إضافة الى اختفاء الأشخاص والاغتيالات أو حرق قرى بكاملها.
وفي تقرير نشره بعض الباحثين في جامعة هارفارد يشي بتلك الجرائم ضد الإنسانية والتي تقوم بها عصابة الانقلابين الحاكمة في بورما بمقاطعات شان وكاشين وغيرها، بينما الحكومة الصهيونية تواصل إمدادهم بالسلاح.لذلك لم تتردد منظمة هيئة الأمم بانتقاد حكومة أونج سان سو كي صراحة لإدارتها الأزمة في مجملها، خاصة في مقاطعة آراكان، وترى ان الظروف الأمنية غير المستقرة لا تبرر المنع التام لوصول المساعدات الإنسانية في الشهور الأخيرة. وقد تحدث المندوب السامي للمهاجرين عن “إبادة عرقية” ضد المسلمين مؤكدا مختلف البلاغات المتعلقة بالقتل والإبادة العرقية والاغتصابات وعمليات النهب والتدمير.
إن مسلمي بورما يمثلون 5% من التعداد ومعروفون باسم “أقلية الروهينجيا” في ميانمار، وهم يعيشون في هذه البلاد منذ عقود ممتدة. وحتى عهد قريب كانوا يعيشون في توافق مع جيرانهم الأغلبية البوذية، بما فيها في مقاطعة راخين. وكانت الحكومة التي يقودها الجيش قد حاولت تقديم إمكانية منح الجنسية للروهينجيا، غير ان حزب أونج سان سو كي قد اعترض تماما على المشروع وتم دفنه ما أن وصلت على الحكم. وفي بلد تمثل فيها الأغلبية البوذية حوالي 90% من التعداد، وهم الأشد قوة ونفوذا، فالمؤامرات تنسج بسهولة… ومقولة ان الروهينجيا هم بنغاليين غير شرعيين ولا بد من طردهم بالقوة من ميانمار، هي من أقوال أنصار أونج سان سو كي منذ سنوات، مدفوعين في واقع الأمر بمن بالرهبان البوذيين، الذين يدفعهم الرهبان الكاثوليك التابعين للفاتيكان.
وإن كانت تلك السيدة قد حصلت على جائزة نوبل للسلام سنة 1991 “لجهودها لصالح الديمقراطية”وحقوق الإنسان في بورما، فبعد ربع قرن تقريبا اتهمها عدد من حملة نفس الجائزة وشخصيات دولية متعددة، بالتواطؤ صمتا وعدم التحرك في المأساة الإنسانية والتطهير العرقي لسياستها اللا أخلاقية والجرائم ضد الإنسانية التي راح ضحيتها مسلمو الروهينجيا في شمال غرب البلاد، وقد عانوا من تعذيب واعتقالات عشوائية واغتصابات فادحة. كما قد تم حرمان كافة الروهينجيا من حرية الانتقال أو الحصول على الطعام أو مياه الشرب والتمريض أو حتى الحصول على العمل.
وقد نشرت منظمة العفو الدولية تقريرا بعنوان: “على حافة القطيعة”، في أواخر ديسمبر 2016، مكون من 62 صفحة. وهذا التقرير لا يدع أي مجال للشك حول الجرائم التي ارتكبها الجيش وأتباعه ضد الروهينجيا. فكم من قرية تم الاعتداء عليها او تم تصفيتها أو حرقها، والقيام باعتقالات عشوائية وتعذيب واغتصاب، وكلها استراتيجية الأرض المحروقة بسكانها وجثثها ومدارسها ومساجدها التي تم وصفها بدقة في التقرير. كما تقول منظمة اليونيسف ان عدد الأطفال شبه الناجون من هذا الجحيم يصل الى حوالي 340000 طفلا في معسكرات للاجئين في بنجلادش، وأنهم جوعى وعطشى ويعيشون بلا أساسيات الرعاية الصحية.
الكرسي الرسولي وبورما يعلنان عن إقامة علاقات دبلوماسية
رغم كل هذه المجازر المقززة ورغم كل الأدلة الصارخة التي لا يمكن إنكارها لجريمة السيدة سو كي وتعمدها تصفية المسلمين، وفي ذروة مأساة وجريمة الإبادة العرقية، أعلن كل من الكرسي الرسولي وبورما، في 4 مايو 2017، عن “إقامة علاقات دبلوماسية، وذلك في بيان صادر بعد لقاء ترحيبي حميم في الفاتيكان بين رئيسة بورما أونج سان سو كي والبابا فرانسيس”! وهو بيان صادر عن جبهة الفاتيكان كمكافأة وجائزة استحقاق بجدارة للسيدة المطيعة، التي سمحت بالإبادة العرقية لمسلمي بورما. وهي المأساة التي يمكن ان تدرج بكل تأكيد تحت راية “تنصير العالم” التي تتواصل منذ قرارات مجمع الفاتيكان الثاني، ويواصلها البابا بخداع صارخ.
والبابا الأرجنتيني الذي كان عائدا لتوه من رحلة في مصر “لتفعيل السلام”، حيث قام بغرس قنبلة موقوتة بفرضه على المسؤولين إقامة “العلمانية الصحية”، أي فصل الدين عن الدولة، قد استقبل سيدة بورما لمدة عشرين دقيقة. ووصف الصحفيون الذين حضروا تحيات الاستقبال بأن اللقاء كان “شديد الاسترخاء والسعادة”..
ومن الحق أن نشير إلى أن البابا انتقد العنف ضد الأقليات المسلمة في بورما، مجرد إدانة، ثم بعد فترة تكرم بالصلاة من أجلهم! لكن، بمقارنة قوله للصهاينة وإعلانه “أن سلامتهم وأمنهم من سلامة وأمن الفاتيكان وأنه لا جدال ولا نقاش في ذلك”، رغم كل ما كاله ويكيله الصهاينة للفلسطينيين، فالعبارات تقف في الحلق حيال هذه التفرقة المجحفة. وما يضاف إلى ذلك أن سيدة بورما هذه كانت قد رفضت في شهر مارس قرار هيئة الأمم بإرسال لجنة تحقيق للمخالفات الجسيمة ضد الروهينجيا التي قام بها الجيش.
وقد أعلن وزير خارجية إيطاليا، السيد أنچلينو ألفانو، بعد أن استقبل السيدة المطيعة: “أن إيطاليا تساند طريق المصالحة الوطنية والتنمية في بورما”. ثم تناولا معا كيفية تحقيق السلام مع الجماعات العرقية في بورما. والأدهى من ذلك أن السيد ألفانو قد أكد أيضا: “أن إيطاليا تنوي مساندة بورما من خلال المساعدة في تنمية القطاعات ذات الأهمية: كالإدارة والتنمية الريفية والصيانة والإدارة المستدامة للتراث الثقافي والسياحة المتواصلة، وتنمية المؤسسات المتوسطة والصغيرة”. والتواطؤ الإجرامي لا يمكن أن يكون أكثر وضوحا.
ووفقا لوكالة “كنائس آسيا”، فإن إقامة العلاقات الدبلوماسية كان قد تم الاتفاق عليها في شهر مارس في بورما على مستوى البرلمان. وهذا القرار سوف يسمح بتسهيل الحوار بين حوالي ثمانمائة كاثوليكي (6,2 % من التعداد). في بلد أكثر من 90 % فيه بوذيين. والحوار بلغة ونصوص الفاتيكان يعني: كسب الوقت إلى أن تتم عملية التبشير والتنصير…
وهذه المبادرة، التي لم يتم الإعلان عنها كالمعتاد، ستسمح للفاتيكان بمزيد من السلطة في بورما، في الوقت الذي تخرج منه البلاد من مرحلة ديكتاتورية عسكرية طويلة، ومنتقدة لجرائمها ضد مسلمي الروهينجيا. ووفقا لموقع “كنائس آسيا” فإن الكنيسة الكاثوليكية المحلية، التي كان قد تم تأميم كل مدارسها سنة 1960، عقب الانقلاب العسكري، “تستثمر من جديد، بصعوبة، في قطاع التعليم وتطالب بموافقات لبناء الكنائس”.. وهذا هو السبب الحقيقي الذي صيغت من أجله المؤامرة الواضحة.
فمنذ ديسمبر 1990 لم يكن للكرسي الرسولي في بورما سوى مجرد “مندوب رسولي واحد” يعيش خارج البلاد. وهذا المندوب هو الذي اقترح في فبراير الماضي إنشاء قنصلية باباوية في أراضي بورما وافتتاح سفارة لبورما لدى الكرسي الرسولي. وهو ما تم تنفيذه يوم 10 مارس الماضي، بعد أن أقره البرلمان غير عابئ بالتطهير العرقي.
ومن المعلن أن سيادة البابا سوف يقوم بجولة آسيوية من 26 نوفمبر إلى 2 ديسمبر 2017، حيث سيقوم بزيارة دولتين، بما أن المساواة الشكلية تقتضي ذلك (!): بورما ذات الأغلبية البوذية، وبنجلادش ذات الأغلبية المسلمة، ليبارك الجميع ويبذر “سلامه”.. ومن أجل مساندة مؤسسة “الأعمال الباباوية التبشيرية”، فقد أعلن البابا فرنسيس أنه “يتعين على كافة كنائس العالم تخصيص شهر أكتوبر 2019 لصلوات التبشير”.
وبذلك يكون كل شيء مرتبا تماما بعد أن تخلص بورع من حوالي مليون مسلم بالقتل العرقي أو بالترحيل..
——
* المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.