في الكشف عن أسباب التوترات الدينية والفتن الطائفية في مجتمعاتنا، كثيرا ما يتم إغفال دور الاستعمار في إذكاء هذه الفتن والتوترات.
فتمزيق وحدة الأمة وزرع التناقضات بين مكونات المجتمع هدف رئيسي للإمبريالية والاستعمار، ولذلك كانت غوايته للأقليات هدفا رئيسيا. لا حبا في هذه الأقليات، وإنما ليستنفد الصراع الداخلي طاقات الأمة، ويتحول الاستعمار إلى حكم بين الفرقاء المتصارعين!
وفي التاريخ الاستعماري؛ العديد من البراهين على الغواية الاستعمارية لقطاعات من الأقليات في المجتمعات الشرقية.
فإبان الحروب الصليبية، وعندما اقتحم الصليبيون مدينة القدس عام 1099م، وارتكبوا أبشع المجازر، تمت غواية الأقليات في بلاد المشرق العربي.
وفي كتاب “تاريخ الحروب المقدسة في الشرق المدعوة حرب الصليب”، الذي كتبه رجل دين غربي هو “مكسيموس مونروند”، وترجمه رجل دين غربي هو “مكسيموس مظلوم”، وطبع في “أورشليم – القدس” عام 1865م، تصوير للمجزرة التي أحدثها الصليبيون بالمسلمين، وحديث عن الغواية الصليبية التي وقعت فيها قطاعات من الأقليات المسيحية.
يقول هذا الكتاب: “لقد قتل الصليبيون وذبحوا وحرقوا سبعين ألفا من المسلمين في سبعة أيام، وإن المسلمين الذين هربوا إلى جامع عمر – (قبة الصخرة) – ظانين أنهم هناك يحمون ذواتهم من الموت؛ خاب ظنهم، لأن الصليبيين – خيالة ومشاة – دخلوا الجامع، وأبادوا بحد السيف كل من فيه، حتى استوعب الجامع من الدم بحرا متموجا، علا إلى حد الركب بل إلى لجم الخيل!
ولما حل المساء، اندفع الصليبيون يبكون من فرط الضحك، بعد أن أتوا على نبيذ المعاصر، ودخلوا كنيسة القيامة، ووضعوا أكفهم الغارقة في الدماء على جدارنها ورددوا الصلوات، ثم كتبوا إلى البابا فقالوا له: يا ليتك كنت معنا لتشهد خيولنا وهي تسبح في دماء الكفار – (أي المسلمين) – ثم حولوا المسجد الأقصى إلى كنيس لاتيني واصطبل خيل ومخزن للسلاح”!!
ويمضي هذا الكتاب – الذي يرتفع إلى مستوى الوثيقة – فيتحدث عن الغواية التي سقطت فيها قطاعات من الأقليات في المشرق العربي، فيقول: “ولقد انتشرت بسرعة أخبار انتصارات الصليبيين في الجهات القريبة من القدس، فتقاطر المسيحيون جموعا غفيرة إلى أورشليم، من أنطاكية والرها وترسوس وكيادكيا وليلكيا، ومن بين النهرين، ومن سائر أقاليم سوريا، يقدمون الشكر والتقريظ لشجاعة الصليبيين، جنود يسوع المسيح، الذين أنقذوا قبر ابن الله، مخلص العالم، من أيدي غير المؤمنين (أي المسلمين).
ولقد تكررت هذه الغواية بدمشق عندما احتلها التتار عام 658 هـ 1260م، وكما يقول المقريزي في كتاب “السلوك”: “استطال النصارى، وأحضروا فرمانا من هولاكو بالاعتناء بأمرهم، فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبوه على أبواب المساجد، وألزموا أصحاب الحوانيت بالقيام إذا مروا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع من القيام للصليب، وصاروا يمرون في الشوارع إلى كنسية مريم ويخطبون ويقولون: “لقد ظهر الدين الصحيح، دين المسيح”، وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم. ولما اشتكى المسلمون إلى نائب هولاكو – كتبغا – أهانهم وضرب بعضهم، وعظّم قدر قسوس النصارى، ونزل إلى كنائسهم وأقام شعائرهم”!
ولقد جلبت هذه الغواية إلى نصارى دمشق انتقام قطز منهم؛ عقب انتصاره على التتار في عين جالوت عام 1260م.
هكذا كانت غواية الاستعمار – كل استعمار – لقطاعات من الأقليات، منذ أن عرفت بلادنا غزوات الاستعمار.
—–*
المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.