ـ الحرب الدائرة على إخواننا في بورما وغيرها سوق كبيرة للاختبار تسجل فيه المواقف وتظهر فيه الأعمال
ـ لم ينتصر الله تعالى بنفسه للمسلمين ليختبرهم بالكافرين ويختبر الكافرين بهم
ـ الله تعالى يريد لعباده المؤمنين الخير وهو يبتليهم ويصلحهم وييسر لهم أسباب الحسنات
ـ لولا كُفر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم ولولا كُفر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة
ـ هذه الأحداث قد تُفزع المسلمين إلى ضرورة إيجاد ضمير إسلامي قوي على أرض الواقع
ـ لولا وجود الكفار لما حصلت عبودية الجهاد ولما نال أهله درجة الشهادة
أمام هذه المشاهد المأساوية التي تنقلها الكاميرات لما يحدث للمسلمين في آراكان على يد الجيش النظامي في ميانمار ومعاونيه من المواطنين والرهبان البوذيين، أمام هذه المجازر البشرية، والدماء المسفوكة، والأشلاء المتناثرة، أمام أنَّات الأطفال وآهات المثخنين بالجراحات القاتلة.
أمام أيادي الأطفال الضارعة التي تستصرخ العالم وتستنقذ البشر دون مجيب.
أمام الهدم والتدمير والقتل والتنكيل، وزراعة الألغام للفارين، وتعقب الهاربين بالنيران، ما لم تغرقهم مياه الأنهار.
أمام عجز الأب بين أولاده والكبير بين أتباعه، أمام القلوب التي تنخلع من هول الصدمة، والأضلاع التي تختلف من بطش الهجمة، أمام الأشلاء الممزقة التي لم يتبق فيها من معالم سوى أنها ركام بشرية.
أمام التفنن في طرق القتل، وصنوف التمثيل بالأجسام أحياء وأمواتاً.. أمام هذه الأهوال لم يعُد بإمكان الكثيرين أن يُسكتوا هذا السؤال بداخلهم: أين الله الكبير المتعال؟
لماذا لا ينزل الله جنوده على هذه الفئة الباغية الظالمة المتألهة تتخطفهم من الأرض؟ لماذا لا يهلكهم كما أَهْلَكَ الطغاة من قبل بالطوفان والصيحة والريح العقيم؟
الله يجيب
ربما تكون المفاجأة حينما أقول لك: إن الله تعالى أجاب عن هذا السؤال في كتابه العزيز، فماذا قال؟
قال الله تعالى: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ {4}) (محمد).
يأمر الله المسلمين بقتال الكافرين في موطن القتال، ويبين لهم أنه عظمت قدرته لو شاء لانتصر هو بنفسه منهم دون حاجة لأمر المسلمين بقتالهم؛ (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ)، غير أن هذا لن يكون!
نعم إنه لم يشأ ذلك ولم يُرِدْه، وذلك معنى قوله تعالى: (وَلَكِن)؛ أي ولكن لم يشأ أن ينتصر منهم بنفسه، بل شاء أمراً آخر، فما هو؟
شاء سبحانه أن يكلفكم أنتم بقتالهم، لماذا؟ (لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ)؛ أي ليختبر المسلمين بالكافرين، ويختبر الكافرين بالمسلمين.
أما المسلمون، فليختبر مدى إيمانهم حينما يقابل ببطش وشدة الكافرين، فعند الابتلاء تظهر الحقائق، وتتضح الخفايا، وتسجل المواقف.
شاء الله أن يجعل المؤمنين ستاراً لقدرته، ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة، بل لانتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها، ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير، وهو يبتليهم، ويربيهم، ويصلحهم، وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار.
يريد ليبتليهم؛ وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات، فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به، حتى تجاهد في سبيله، فتقتل وتقتل، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه، ولا تستطيع الحياة بدونه، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله.
ويريد ليصلحهم؛ ففي معاناة الجهاد في سبيل الله تعالى، والتعرض للموت في كل جولة، ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه، وهو هين عند من يعتاد ملاقاته، سواء سلم منه أو لاقاه، والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس لحظات الخطر شيئاً يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام! وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح.
ثم هو بعد ذلك كله تيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم الحسنى لينالوا رضاه وجزاءه بغير حساب، وتيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم السوء ليكسبوا ما يستحقون عليه غضبه وعذابه.
ما أسهل أن يدعي الإنسان أنه مؤمن مستعد للتضحية عن دينه ومقدساته بالنفس والمال، بل ربما ظن الإنسان أنه قادر بالفعل على ذلك، فهل يحاسب الله الناس على مجرد ظنونهم وأقوالهم؟ أم يقيم لهم اختباراً يظهر فيه الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق؟ حتى يكون الحساب والجزاء على المواقف والأعمال؟ صحيح أن الله يعلم مواقف كل شخص قبل ظهورها، ولكن بأي شيء يقيم الحجة على عباده؟
ألم يخبرنا الله أن الإنسان يوم القيامة سيرد شهادة الملائكة على مواقفه ويصر على ألا يشهد عليه أحد سوى نفسه، بل ويشتد في افترائه فيحلف كذباً بين يدي الله أنه بريء من الأعمال التي سجلت عليه، وذلك قوله تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ {18}) (المجادلة)، حتى تشهد عليه أعضاؤه؛ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {24}) (النور).
فهذه الحرب الدائرة على إخواننا في بورما وما قبلها من حروب وما سيعقبها لا تحدث إلا بإرادة الله تعالى، سوق كبير للاختبار، تسجل فيه المواقف وتظهر فيه الأعمال، فالمسلم لا يمكن أن يدخل الجنة بالمجان وإلا لدخلها كل الناس، بل لا بد من تقديم النفس والمال؛ (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ) (التوبة: 111).
إنه اختبار للغني صاحب المال، ماذا سيفعل إذا دُعي للإنفاق على ترميم آثار هذه الويلات التي يعيشها هؤلاء المستضعفون؟ ألم تنجح دول بطلبها من بنجلاديش أن تفتح لهم حدودها، على أن تتكفل هي بنفقات إقامتهم؟
ألم يرسب آخرون أفراداً ودولاً في قعودهم عن هذا الواجب، بل وفي إظهارهم المستضعفين في صورة الإرهابيين المتمردين، الذين بطروا النعمة، وكفروا حسن معاملة الجيش والحكومة!
إنه اختبار لمسلمي آراكان أنفسهم، من منهم سيتمسك بدينه رغم قسوة ما يلاقيه، ومن منهم سيرسب ويترك دينه ليفوز بالحياة!
فيا له من اختبار يتكشف معه الأشخاص والقيم والهيئات، فيظهر العدو من الصديق، والبعيد من القريب، والولي من اللدود.
تكشفت معه مواقف الحكام والرؤساء، والعلماء والدعاة، والحركات والهيئات! ظهر هذا فسجله الله على أصحابه ويوم القيامة يقاضيهم بما سجله عليهم من أعمالهم، وهو تكشّف مفيد للناس، فعرفوا مواطن النصرة ومواطن الهزيمة، فلربما كانوا يظنون في أحد الرموز أو الهيئات أنه الناصر المعين فإذا به الخائن الذليل؛ فيتلمسون النصرة في موضعها الصحيح.
تكشّف للناس حجم مجلس الأمن والأمم المتحدة، والمواثيق الدولية والقوانين الدولية والاتفاقات الأممية، وهل هي مؤسسات محايدة تنصف المظلوم وتأخذ على يد الظالم أم أنها مؤسسات صادرتها بعض الدول لصالحها!
ولسنا إذ نذكر ذلك، ننسى الجانب الآخر من الصورة، فننسى آلام المتألمين وما يتعرضون له من ويلات؛ لأنه من يموت منهم لن يخسر شيئاً، ولن يضيع شيء من عمله، بل ولا من آماله الكبار، فما هي إلا خروج الروح ليعقبها استقرار في الجنة حيث النعيم الباقي، الذي لا يزول ولا يحول؛ (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ {4}).
بعض الفوائد
على أن هذه الويلات لا تخلو من فوائد، بل فوائدها تعلو على أضرارها، وفي فوائد أمثال ذلك من الآلام يقول ابن القيم ما مؤداه:
قد يترتب على خلق الله من يكفر به ويشرك به ويعاديه من الحكم الباهرة ما لم يكن يحصل بدون ذلك، فلولا كُفْر قوم نوح لما ظهرت آية الطوفان وبقيت يتحدث بها الناس على مر الزمان.
ولولا كُفْر عاد لما ظهرت آية الريح العقيم التي دمرت ما مرت عليه.
ولولا كُفْر قوم صالح لما ظهرت آية إهلاكهم بالصيحة.
ولولا كُفْر فرعون لما ظهرت تلك الآيات والعجائب تتحدث بها الأمم أمة بعد أمة، واهتدى من شاء الله فهلك بها من هلك عن بيّنة، وحيّ بها من حيّ عن بيّنة وظهر بها فضل الله وعدله وحكمته.
ولولا مجيء المشركين بالحد والحديد والعدد والشوكة يوم “بدر” لما حصلت تلك الآية العظيمة التي رتب عليها من الإيمان والهدى والخير ما لم يكن حاصلاً مع عدمها.
وعن الأضرار التي حصلت للمسلمين من التعذيب والقتل يقول ابن القيم: وتلك المفسدة التي حصلت مغمورة جداً بالنسبة إلى مصالحها وحِكَمها، وهي كمفسدة المطر إذا أعاق المسافر وبَلّ الثياب وخرب بعض البيوت بالنسبة إلى مصلحته العامة.
ويضرب بذلك مثلاً فيقول: فتأمل ما حصل بالطوفان وإغراق آل فرعون للأمم من الهدى والإيمان الذي غمر مفسدة من هلك به حتى تلاشت في جنب مصلحته وحكمته!
فكم لله من حكمة في آياته التي ابتلى بها أعداءه وأكرم فيها أولياءه، وكم له فيها من آية وحجة وتبصرة وتذكرة؛ ولهذا أمر سبحانه رسوله أن يذكر بها أمته فقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ {5} وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ {6}) (إبراهيم)، فذكرهم بأيامه وإنعامه ونجاتهم من عدوهم وإهلاكهم وهم ينظرون، فحصل بذلك من ذكره وشكره ومحبته وتعظيمه وإجلاله ما تلاشت فيه مفسدة إهلاك الأبناء وذبحهم؛ فإنهم صاروا إلى النعيم وتخلصوا من مفسدة العبودية لفرعون إذ كبروا وسومهم له سوء العذاب، وكان الألم الذي ذاقه الأبوان عند الذبح أيسر من الآلام التي كانوا تجرعوها باستعباد فرعون وقومه لهم بكثير، فحظي بذلك الآباء والأبناء.
ولولا وجود الكفار لما حصلت عبودية الجهاد، ولما نال أهله درجة الشهادة، ولما ظهر من يقدم محبة فاطره وخالقه على نفسه وأهله وولده ومن يقدم أدنى حظ من الحظوظ عليه، فأين صبر الرسل وأتباعهم وجهادهم وتحملهم لله أنواع المكاره والمشاق وأنواع العبودية المتعلقة بالدعوة وإظهارها لولا وجود الكفار وتلك العبودية تقتضي علمه وفضله وحكمته ويستخرج منه حمده وشكره ومحبته والرضا عنه.
ضمير العالم الحر
قد يكون موت بضعة آلاف أو عشرات الألوف من آثار الاضطهاد والتعذيب هنا وهناك، سبباً في أن يوقن المسلمون أن ضمير العالم الحر الحامي للإنسانية لن يكون إلا إسلامياً، فيفزعهم ذلك إلى التفكير في كيفية الوصول إلى تكوين هذا الضمير الإسلامي على أرض الواقع، فكثير من المسلمين كان يؤمل في المؤسسات الأممية الحقوقية خيراً في أن تدفع عنهم عادية المعتدين.
قد يكون موت بضعة آلاف أو عشرات الألوف من آثار الاضطهاد والتعذيب هنا وهناك، سبباً في وضوح الفرق كيف كان يتعامل المسلمون مع غير المسلمين، يوم كانوا هم القوة الوحيدة في العالم، فكما يقول “توماس أرنولد”: لو أراد المسلمون يوم كانوا القوة الوحيدة أن يُخلوا العالم من أي دين غير الإسلام لفعلوا، وما كان لأحد أن يمنعهم، لكنهم لم يفعلوا، بدليل أن اليهودية والنصرانية وغيرها من الأديان بقيت، وبقيت معابدها داخل حدود الدولة الإسلامية، فعل المسلمون ذلك دون أن تكون هناك مواثيق دولية لحقوق الإنسان، لكن كانت هناك مواثيق قرآنية ربانية تمنعهم من ظلم الإنسان.
لعل كثيراً من المستغربين إذا قرؤوا هذا التاريخ لـ”توماس أرنولد”، يقولون: غير المسلمين قدموا لحماية الإنسان أعظم مما قدمه المسلمون يومها، فتأتي هذه المأساة وأخواتها لتكشف زيف هذا التصور، وأن الإسلام وحده هو الدين الذي فعل ويفعل ذلك.
(*)عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.