أول طالب علم شرعي عراقي يحصل على شهادة العالمية تخصص قضاء شرعي من الأزهر
احتج على تقرير بعدم صلاحية العراق ليقوم به فرع لدعوة الإخوان وتعهد بدخولها كل قرية وبيت
العمل التنظيمي بالعراق لم يخرج من قالبه المبعثر إلا بعودة الصواف من مصر إلى الموصل
بدأت دعوة الصواف في أروقة كلية الشريعة بالأعظمية فتشكلت على يديه أول أسرة دعوية ضمت طلابه
الحركة الدعوية المتصاعدة غدت أقوى وسيلة لعلاج أدواء المجتمع العراقي النفسية
الحلقة الأولى
شهد عام 1946م تخرج الشاب محمد محمود الصواف حاصلاً على شهادة العالمية (الماجستير) تخصص قضاء شرعي من الأزهر الشريف، وهو أول طالب علم شرعي عراقي ينالها، وقامت مجلة «الإخوان المسلمون» بالكتابة عن الشاب الصواف تحت عنوان «نجاح أخ كريم».
قامت مجلة «الإخوان المسلمون» بتهنئة الصواف قائلة: «يسر قسم الاتصال بالعالم الإسلامي بالمركز العام للإخوان المسلمين أن يزف التهنئة الحارة الخالصة إلى أحد أعضائه العاملين الأخ الكريم الأستاذ محمد محمود الصواف رئيس البعثة العراقية بالأزهر، وقد كان نجاحه نجاحاً ممتازاً في الشهادة العالمية بكلية الشريعة وهو أول عراقي ينالها، ومما يزيد فخراً ويلهج فؤاد الأخ شكراً أنه أول سباق إلى اجتياز مرحلة الدراسة لهذه الشهادة في سنتين رغم أن مدتها أربع سنوات، وقد أثنى مجلس الأزهر على كفايته العلمية وهمته الدائبة».
وكذلك نشرت إحدى مجلات الجماعة المصرية مقالاً لتهنئة الشاب الصواف على نجاحه المتميز بعنوان «عبقرية عراقي».
وقبيل عودة الشاب الصواف إلى العراق كان على موعد مع بعثة البنا التي عادت أدراجها إلى القاهرة لعدم نجاحها في تأسيس الجماعة العراقية، على الرغم من كل قابليتها ونشاطاتها وسط الطلاب في بغداد وتكوينها أسرة كان فيها إحسان شيرزاد، وعبدالوهاب الحاج حسن، وعبدالله الحاج سليم من أربيل، وعدنان رانية، وتحسين عبدالقادر من بغداد، ونافع حمودات، وحامد حسين، وتوفيق الوتاري من الموصل.
كانت اجتماعات هذه الأسرة تعقد في بيت عدنان رانية، أو بيت الملا معتوق في محلة السفينة بالأعظمية، وكان حسين كمال الدين هو الذي يتولى إدارة هذه الأسرة ويساعده في عمله هذا محمد عبدالحميد أحمد.
تقرير وتحدّ
حين عادت البعثة لمصر قدم محمد عبدالحميد أحمد تقريراً ميدانياً أمام البنا في اجتماع بالمركز العام بالقاهرة قال فيه: «من المحال أن تقوم للإخوان دعوة في العراق، وإنه ليس مقراً للدعوة ولا يصلح لها بسبب الفساد الذي استشرى والإلحاد الذي انتشر والشيوعية التي أخذت زمام الشباب».
وأكد أنه خلال أربع سنوات من انتدابه في العراق – فقد عمل منفرداً في نشر الدعوة بين بغداد والبصرة منذ عام 1943م إلى حين اندماجه بالبعثة – لم يستطع التأثير إلا في شخص واحد اسمه أحمد الجواري.
وبعد أن انتهى من كلمته، انبرى له الشاب الصواف فاحتج بشدة على محمد عبدالحميد أحمد واتهمه بالعجز والتقصير، وأنه لم يستطع التعامل مع الواقع العراقي فخطب قائلاً: «يؤسفني أن أسمع هذا الكلام من رجل داعية ييأس من بلد مسلم فيه الملايين من المسلمين وله تاريخ حضاري قديم وأنجب العلماء والفطاحل والأدباء والأئمة، بلد الإمامين الكبيرين أحمد بن حنبل، وأبي حنيفة النعمان رضي الله عنهما.
وإن شاء الله تعالى سترى الدعوة في كل بيت وفي كل قرية وفي كل مدينة، وقد رفعت أعلامها في العراق، وسترى شباب العراق مع شباب مصر ومع شباب العالم الإسلامي وجهاً لوجه ويداً بيد وقلباً بقلب».
وكانت الهتافات تعلو وتؤيد الشاب الصواف فيما يقول.
ثم قال الشاب الصواف: «إنني أعاهد الإمام على أن أجعل من العراق ميداناً معطاء للدعوة».
إلا أن بعض إخوان المركز العام كانوا يرون في كلام الشاب الصواف نوعاً من طموح الشباب المبالغ فيه كون مقدم التقرير عضو هيئة تأسيسية ومتمرساً قديماً، ولكن الشاب الصواف أثبت لهم العكس تماماً بعد عودته لوطنه.
عودته إلى العراق
مثلت عودة الصواف حاملاً العلم الأزهري والفكر الإخواني إلى بلده دافعاً قوياً للاجتماع مع أقرانه مثل عبدالرحمن السيد محمود، وعبدالرحمن الأرحيم، وغيرهما في الموصل، لمفاتحتهم لغرض تأسيس الجماعة العراقية، فواجهه خلاف حول التسمية، فقال لإخوانه لما رأى بوادر الخلاف بينهم: «إن الأسماء لا تهمنا، نحن نريد أن نحمل فكرة».
وبعد ذلك سافر الصواف إلى مصر لاستكمال وثائق تخرجه في الأزهر مع ذلك الأخ الذي كان يصر على أن يجعلها باسم «الإخوان»، فارتأى الصواف تحكيم المرشد لحسم الخلاف، فقال للإخوة المختلفين: «سيروا مع الشيخ الصواف، فهذا هو الصحيح؛ لأننا لا تهمنا الأسماء وإنما تهمنا الدعوة الإسلامية ويهمنا الإسلام نفسه بأي اسم كان، وبأي ثوب خرج مادام مع الله ومع مبادئ الإسلام الصحيحة».
وقد مثلت عودة الصواف من مصر بداية الحراك الإسلامي في العراق، فمع ما بذله الإخوة المصريون، فإن العمل التنظيمي لم يخرج من قالبه المبعثر إلا بعودة الصواف من مصر إلى الموصل ثم التحاقه بكلية الشريعة في بغداد مدرساً عام 1946م.
فبدأت دعوة الأستاذ الصواف في أروقة كلية الشريعة بالأعظمية، فتشكلت على يديه أول أسرة دعوية ضمت طلابه، وهم كل من نعمان السامرائي، وإبراهيم المدرس من بغداد، ويوسف العظم من الأردن، وعبدالله العقيل من البصرة، وعبدالحافظ سليمان، ومحمد ياسين من الموصل، وكان الأستاذ الصواف هو نقيب الأسرة التربوية.
المرشد الروحي
التقى الصواف بعد ذلك بالشيخ العلامة أمجد الزهاوي أبرز العلماء المجتهدين في زمانه، وكان الشيخ الزهاوي فقيهاً تقليدياً تقياً جداً، وأصبح بدوره مرشداً روحياً للجماعة العراقية الجديدة فيما بعد.
انتسب الأستاذ الصواف إلى جمعية الآداب الإسلامية حيث كان الشيخ الزهاوي رئيسها، فحرك الصواف جل الشباب بالجمعية للعمل الدعوي في بغداد.
ولكن البعض من مسؤولي الجمعية قاموا باندفاعات غوغائية فضاقوا ذرعاً بالشيخ الزهاوي، والأستاذ الصواف بإدخالهم عناصر مندسة غير منتسبة فنسبوها للجمعية، وأجروا انتخابات الهيئة الإدارية وأسقطوا الأستاذ الصواف فآثرا بعدها الانسحاب.
وكان السبب الأساسي أن بعض أولئك المسؤولين مثل كمال الدين الطائي، وإسماعيل الراشد وغيرهما، عندهم نزعة قومية، وكانوا يتكلمون في مجالسهم على الصواف وينتقدونه، والسبب الآخر الذي أثارهم هو التفاف الشباب المسلم حول الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف فشاكسوا خطهما الإسلامي الخالص.
بعد انسحاب الشيخ الزهاوي والأستاذ الصواف ومعهما شباب الدعوة الجدد من جمعية الآداب، فتح الشيخ الزهاوي مدرسته الشرعية «المدرسة السليمانية» بالقشلة كمقر للدعوة الجديدة، فكانت الاجتماعات تعقد فيها؛ حيث كان الشيخ الزهاوي يلقي على الشباب درساً في العقيدة والفقه، ويلقي الأستاذ الصواف درساً في الدعوة، فضلاً عن اجتماع أسبوعي يعقد في جامع الملك غازي مقابل القشلة (دار السراي المعروفة في وسط بغداد).
ارتأى الصواف تقديم طلب لإجازة جمعية إخوانية مع تغيير التسمية؛ فرفضت الوزارة الطلب في نفس السنة، لكنه استمر في التحرك بالدعوة والتجميع، يعاضده الشيخ الزهاوي في مدرسته، وهكذا أخذت الدعوة بالعراق إطارها انطلاقاً من مقرها الجديد.
الحركة الدعوية
غدت الحركة الدعوية الإسلامية المتصاعدة بقيادة الصواف أقوى وسيلة لاستئصال روح ضيق الأفق الهزيلة في نفسية المجتمع العراقي، الذي كان يعاني الفقر والأمية والجهالة المطبقة بحقائق الإسلام، الذي سببه الدور الخطير الذي مارسه الاحتلال البريطاني في دعمه للغزو الفكري من خلال الفلسفات والنظريات المادية الغربية كالداروينية والفرويدية والماركسية وغيرها.
والسبب الآخر في نشره للفساد الاجتماعي في أغلب المدن العراقية، وكان أصحاب القرار السياسي من خلال تأثرهم بالرذائل أثناء دراستهم في إسطنبول في ظل حكم حزب الاتحاد والترقي العلماني، شجعوا ذلك الفساد الاجتماعي من خلال عمالتهم لسلطة الاحتلال البريطاني المنتدبة.
حرّكت دعوة الصواف وخطبه الحماسية في جوامع ومساجد وجمعيات بغداد والموصل والبصرة وغيرها من الألوية (المحافظات) فيما بعد شعلة التعطش للعمل الدعوي والجهادي؛ فكان الأنصار الأوائل من طلاب الصواف المنضوين تحت جناح الدعوة أصحاب وفاء لا متناهٍ للمبادئ التي التهبت من جديد بالساحة الإسلامية في العراق.