تعد مهمة تربية النشء والاهتمام بهم وإعداد عقولهم وتأهيلها؛ لتحمل تبعة الاستخلاف في الأرض هي مهمة من أشق وأسمى المهمات على الأرض.
فالفرد هو اللبنة الأساس في أي بناء مجتمعي، وإن لم يحظ بالقدر الكافي من الإعداد والعناية فسوف تكون النتيجة مجتمعاً يحظى بخلل وافر وأمراض داخلية، تنذر بانهياره أمام أول عقبة يمكن أن يتعرض لها.
والأسرة هي المحضن الأول والمدرسة الأولى لهذا الإنسان الفرد، وإن لم تكن على وعي كامل بخطورة مهمتها فسوف نحظى كذلك بجيل هشٍّ يفتقد إلى الانتماء الأسري أولا، ثم الانتماء المجتمعي بعد ذلك، لتليه سلسلة من التنازلات عن الدين والوطن والهوية.
والأسرة إن لم تكن على دراية كاملة بعملية التربية وأصولها وجوانبها ومصادر التلقي فتلك كارثة تعاني منها مجتمعاتنا المسلمة اليوم، وما نراه من ظاهرة الانحلال الأخلاقي وظاهرة الانتماء الغربي بمفاسده لا محاسنه قد انتشرت في بلادنا. كل ذلك إن هو إلا حصاد لفترة زمنية انشغلت فيها الأسرة -وفي القلب منها “الأم”- عن مهمتها الأساسية ودورها الرئيس في عملية التربية والتوجيه منذ اللحظة الأولى لوجود الأبناء.
سأل أحدهم الفيلسوف الإسلامي “مالك بن نبي” ابنتي لها من العمر ثمانية أشهر، فمتى أبدأ في تأديبها وتعليمها؟ فأجابه: لقد فاتك من تربيتها ثمانية أشهر يا سيدي!
ومعنى هذا أن عملية التربية تبدأ منذ اللحظة الأولى للميلاد، بل لو أننا تتبعنا مسألة التربية في ديننا لوجدنا أن الإسلام أولاها عناية واهتماماً كبيرين!
فهي تبدأ قبل الزواج وذلك باختيار الزوجة الصالحة التي تصلح لأن تكون “أماً” ناجحة تهتم برعاية شؤون أسرتها، وتقدر أهميتها، وتمثل لها أولوية أولى، إن لم تكن أولوية واحدة في مرحلة من مراحل تربية الأبناء خاصة في سنواتهم الأولى.
وانشغال الأم بالعمل خارج البيت لتعود مرهقة بعد يوم عمل شاق بالخارج لتكمله بالبيت، في حالة من الإصرار على انتهاك حق الطفل في التواجد داخل حصن عين الأم ووعيها الكامل، نجدها وهي تبحث عن مصادر بديلة تشغل بها طفلها الذي ينهكها بتساؤلاته وحركاته ومتطلباته، وليس أفضل بالنسبة للأبوين على السواء من قنوات الأطفال التي غزت بيوتنا بشكل مروع، تحمل بين طياتها كل وسائل الغزو الفكري لصغارنا، تقدمه في قالب قصصي جاذب، وألوان مبهرة، وحركات تذهل الطفل وتشده، وإذا به يقضي الساعات في حالة من المتابعة الدقيقة، والتحوقل حول الذات مع التلفاز، يتلقى منه عقيدته وسلوكياته وثقافته بكل العنف المستورد، خاصة أن معظم تلك الأفلام الكرتونية المعروضة في هذه القنوات هي أفلام مستوردة وليست صناعة محلية، أنتجتها ثقافة الغرب وقد يكون المطلوب منها –بالضبط- هو ما يوجهونه بشكل مباشر من رسائل تغرس فيهم الخرافة والعنف والتقليل من شأن المسلمين، بل والتقليل من شأن الذات الإلهية!
وقد رأيت بنفسي أفلاماً تجيب بشكل مباشر عن الخالق بأنه مجموعة آلهة، كل منها تقوم على شأن من شؤون الكون، كذلك بعد مشاهدة دقيقة -لأكثر فيلم أطفال أجنبي مشاهدةً في البلاد العربية، وهو سلسلة “هاري بوتر”- وجدت من المخالفات العقائدية ما تؤدي للكفر، في الوقت الذي يشاهده أبناؤنا بلهفة ومتابعة تفوق تصورنا في مثابرتهم على مشاهدة فيلم يتعدى الساعتين في عدة أجزاء متتابعة، يحوّل العالم لسحرة وعوام، ولا وجود لإله خالق مدبر للكون، وإنما الأمر في يد من يقدر على التحكم بالآخر من البشر بنوعيهم، كما قسمهم الفيلم في مشاهد مبهرة تجذب الجميع، وذلك في عدم وجود البديل الملائم وإفلاس عربي حقيقي أمام تلك الهجمة الثقافية التي تستهدف صغارنا في غيبة منا.
والطفل ما هو إلا صفحة بيضاء يسطر الأبوين -أو غيرهما- فيها ما شاؤوا من قيم. قال رسول الله صلى الله علىه وسلم: (ما من مولودٍ إلاَّ يولد على الفطرة؛ فأبواه يهوِّدانه وينصِّرانه ويمجِّسانه، كما تُنتَج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسُّون فيها من جدعاء؟) (رواه مسلم).
أثر الأفلام على الأطفال
وفي بحث خطير قامت به الباحثة السعودية فاطمة أحمد خليل أبو ظريفة لقياس أثر الأفلام الكرتونية على الطفل المسلم، وركز البحث في بدايته على عدة نقاط هي:
1- مدى كثافة مشاهدة الأطفال للرسوم المتحركة، والتعرف على أي القنوات أكثر جذبًا لهم لمشاهدة الأفلام من خلالها.
2- معرفة مدى تأثير أفلام الرسوم المتحركة الأجنبية على المحصول اللغوي للطفل، وقدرته على التعبير وحصوله على المعلومات والثقافات المختلفة.
3- معرفة أي الأفلام أكثر جذبًا للطفل.
4- مدى تأثير أفلام الرسوم المتحركة الأجنبية على عقيدة الطفل المسلم، وإيمانه بالله واليوم الآخر، ومفهوم الحلال والحرام.
5- التعرف على مدى تأثير سمات الشخصيات في أفلام الرسوم المتحركة على انفعالات الطفل المسلم.
6- معرفة مدى تأثير القيم التي تحتويها أفلام الرسوم المتحركة الأجنبية على سلوك الطفل المسلم.
7- معرفة أهمية الشكل الفني لأفلام الرسوم المتحركة الأجنبية في خدمة مضمون الفيلم، والقيم التي تحتويها.
8- معرفة إن كان هناك فروق ذات دلالة إحصائية بين المعدلات العامة لاستجابات الأطفال حسب النوع، والمعلمين والمعلمات والأمهات والآباء حسب النوع.
وقامت الباحثة باختيار ثلاث قنوات عربية للأطفال معنية بالأفلام الكرتونية، وهي:
-القناة الأولى لتلفزيون المملكة العربية السعودية قناة spacetoon.
-قناة البحرين spacetoon.
-فيلم عن مكتبة الفيديو.
وقد أسفر البحث عن عدة وقائع ومضامين، هي:
أولاً- نتائج الدراسة الميدانية:
(1) يشاهد جميع أطفال العينة أفلام الرسوم المتحركة، وتستحوذ على اهتمامهم.
(2) يفضل الأطفال مشاهدة أفلام الرسوم المتحركة من خلال القنوات الفضائية ثم من خلال الفيديو.
(3) تؤثر أفلام الرسوم المتحركة على المحصول اللغوي للطفل وقدرته على التعبير بدرجة متوسطة.
(4) تؤثر أفلام الرسوم المتحركة على ثقافة الطفل ومعلوماته بدرجة متوسطة.
(5) يفضل الأطفال الرسوم المتحركة الأجنبية التي تتحدث باللغة العربية، وأن تكون قصتها خيالية.
(6) تؤثر أفلام الرسوم المتحركة بما تحتويه من عقائد غريبة على عقيدة الطفل المسلم وعلى مفهومه للحلال والحرام.
(7) تؤثر السمات التي تتصف بها شخصيات أفلام الرسوم المتحركة الأجنبية على انفعالات الطفل.
(8) يرى الآباء أن القيم التي تحتويها أفلام الرسوم المتحركة الأجنبية لها تأثير على سلوك الطفل بدرجة عالية.
(9) توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين استجابة الذكور والإناث لصالح الإناث بالنسبة للأطفال، بينما لا توجد فروق ذات دلالة إحصائية بين استجابة الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات.
نتائج تحليل المضمون:
(أ) يعمل الشكل الفني لأفلام الرسوم المتحركة على جذب الأطفال لمشاهدتها، حيث يشمل الشكل الفني “لغة الفيلم، وقصته، واللقطات، وحجمها والشكل الدرامي، وسمات شخصيات الفيلم”.
(ب) تحتوي أفلام الرسوم المتحركة الأجنبية على عقائد غريبة، تعمل على تشكيك الطفل بإيمانه بالله ومفهوم الحلال والحرام، حيث بلغ مجموع المخالفات الدينية في أفلام التلفزيون نسبة (4.96%) بينما الموافقات الدينية في أفلام التلفزيون بنسبة (6. 3%).
وفي أفلام الفيديو كانت نسبة المخالفات (7.92%)، بينما نسبة الموافقات (3.7%).
(ج) تشتمل أفلام الرسوم المتحركة الأجنبية على قيم سلبية هي أكثر تنوعًا وكمًّا من القيم الإيجابية، حيث إن القيم السلبية في أفلام التلفزيون كانت نسبة (3.75%) بينما القيم الإيجابية في أفلام التلفزيون كانت نسبة (7. 24%). والقيم السلبية في أفلام الفيديو كانت (7. 66%)، والقيم الإيجابية في أفلام الفيديو كانت نسبة (3.33%).
(د) تحتوي أفلام الرسوم المتحركة الأجنبية على معلومات وثقافات بنسبة ضئيلة وغير دقيقة في صحتها وتوثيقها؛ حيث كان عدد المعلومات في أفلام التلفزيون (42) معلومة، بينما في فيلم الفيديو كان تكرارها (4) مرات فقط. وهذا تعبير قليل جدًّا بالنسبة للفترة الزمنية التي تخص الفيلم.
وتعطينا تلك الدراسة مؤشراً خطيراً، وهو أن أولادنا ومستقبل أمتنا ليس في أيد أمينة، وأنه على الأسرة المسلمة وأخاطب فيها ضمير الآباء والأمهات، فهم المعنيون بالدرجة الأولى بتلك الصرخة، عسى أن ينتبهوا لخطورة ما يغرسون بالإهمال في التربية في تلك الفترة، وأن يعلموا جيداً، أنه ليس بالشراب والملبس والطعام وحدها يحيا الإنسان، وأن المسؤولية جسيمة والتبعة خطيرة إن لم ننتبه لذلك المنزلق الذي وقعنا فيها منذ سنوات، وها نحن ذا نحصد جيلاً يقف عاجزاً عن تلبية متطلبات ذاته فضلاً عن النهوض بأمة.
المصدر: موقع “بصائر تربوية”.