فلسطين أرض مباركة مقدسة، هي مهد الرسالات السماوية، اختارها الله عز وجل دون غيرها ليبعث فيها معظم الرسل والأنبياء، وهي منتهى الإسراء ومبتدى المعراج، فهي بوابة السماء، وهي أرض المحشر والمنشر.
ذكر الله تعالى فلسطين في كتابه الكريم بصفاتها الشريفة في عدة مواضع نذكرها في هذه العجالة:
أولاً: الأرض المباركة:
والبركة ثبوت الخير الإلهي فيها، قال ابن جرير الطبري: إن المراد بالبركة هو جعل الخير فيها ثابتاً دائماً لأهلها، وقال الشوكاني في معنى البركة: إخراج الزرع والثمار فيها على أتم ما يكون وأنفع ما ينفق، وقال غيره: أي بالأنهار والثمار والأنبياء والصالحين.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن الأرض التي بارك الله فيها هي فلسطين والأردن، وقال السهيلي: قوله تعالى: (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) (الإسراء:1) يعني الشام، ومعناه في السريانية الطيب لطيبه وخصبه، وقيل: سُمي الشام مباركاً لأنه مقر الأنبياء وقبلتهم ومهبط الملائكة والوحي وفيه يحشر الناس يوم القيامة، وروي عن الحسن البصري وقتادة: إنها أرض الشام، وعن زيد بن أسلم قال: هي قرى الشام، وعن عبدالله بن شوذب: فلسطين، وعن كعب الأحبار قال: إن الله بارك في الشام من الفرات إلى العريش.
وذُكرت فلسطين بهذه الصفة في خمسة مواضع؛ وهي:
1- (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {1}). (الإسراء).
2- (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ {137}) (الأعراف).
3- (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ {71}) (الأنبياء).
4- (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ {81}) (الأنبياء).
5- (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ {18}) (سبأ).
ثانياً: الأرض المقدسة:
والأرض المقدسة أي: المطهرة، قال الراغب: البيت المقدس أي المطهر من النجاسة؛ أي: الشرك، وكذلك الأرض المقدسة، قال الزجاج: إن الأرض المقدسة هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وعن قتادة: إنها الشام، وروى ابن عساكر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات.
وذكرت فلسطين بهذه الصفة في موضع واحد في القرآن الكريم وهو قوله تعالى: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ {21}) (المائدة).
ثالثاً: أرض المحشر:
قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) (الحشر:2)، والمراد بأول الحشر أي جمعهم في الدنيا في بلاد الشام، والمقصود بأهل الكتاب هنا بنو النضير حينما أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة، وذكر عن الزهري أنه قال: كان جلاؤهم أول الحشر في الدنيا إلى بلاد الشام، وقال ابن زيد: لأول الحشر الشام، وروي كذلك عن قتادة وذكر ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من شك في أن أرض المحشر هنا – يعني الشام – فليقرأ هذه الآية ثم ذكرها.
رابعاً: الإشارة إلى فلسطين دون ذكر صفة من صفاتها:
وجاء ذلك في عدة مواضع كما في قوله تعالى:
1- (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً {4}) (الإسراء)، ذكر الشوكاني في تفسير الآية أن المراد بالأرض أرض الشام وبيت المقدس.
2- (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {105}) (الأنبياء)، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالأرض المقدسة أرض الشام وفلسطين، ووافقه في ذلك الشوكاني، وذكر مجيد الدين الحنبلي في أحد الأقوال: إنها الأرض المقدسة ترثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
3- (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ {93}) (يونس)، والمراد هنا بالمبوأ: المنزل المحمود المختار، وهو منزلهم من بلاد الشام الجنوبية المعروفة بفلسطين.
4- (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ {1} وَطُورِ سِينِينَ {2}) (التين)، ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المقصود بالتين والزيتون المدن التي تكثر زراعتهما فيها، فعن كعب أن التين دمشق والزيتون بيت المقدس، وعن شهر بن حوشب: الزيتون الشام.
خامساً: ذكر مناطق في فلسطين:
أشار القرآن الكريم إلى بعض مناطق فلسطين ومن ذلك قوله تعالى:
1- (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ {50}) (المؤمنون)، أخرج ابن جرير عن مرة النهزي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الربوة الرملة»، وعن ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه أنها (أي الربوة) الرملة من فلسطين، وقال قتادة وكعب وأبو العالية: إنها بيت المقدس.
2- (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً {22}) (مريم)، ذكر المفسرون في معنى الآية أن مريم تنحت بالحمل إلى مكان بعيد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إلى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيليا أربعة أميال، وإيليا أحد أسماء بيت المقدس.
3- (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ {41}) (ق)، روي عن ابن عباس في معنى قوله: «من مكان قريب»؛ أي من صخرة بيت المقدس، وقال قتادة: كنا نحدث أنه ينادى من صخرة بيت المقدس، وقال الكلبي وكعب: وهي أقرب الأرض إلى السماء.
4- (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ {58}) (البقرة)، اختلف العلماء في تعيين القرية، فقال الجمهور: هي بيت المقدس، وقيل: أريحا من بيت المقدس، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الباب المذكور في الآية يدعى باب الحطة من بيت المقدس.
5- (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) (البقرة: 259)، ذكر القرطبي أن القرية المذكورة هي بيت المقدس في قول وهب بن منبه وقتادة وغيرهما، والذي أخلى بيت المقدس حينئذ بختنصر، وكان والياً على العراق، وكذلك وافقه الشوكاني وجمهور المفسرين.
6- (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ) (البقرة: 249)، ذكر قتادة في المراد بالنهر الذي ابتلاهم الله به هو نهر بين الأردن وفلسطين، وذكر الشوكاني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه نهر الأردن، وعن ابن عباس أيضاً أنه نهر فلسطين.
7- (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ {18}) (النمل)، ذكر الرازي أن وادي النمل واد بالشام كثير النمل، ويقع هذا الوادي بجوار عسقلان.
نسأل الله عز وجل أن يستعملنا في تحرير هذه الأرض المباركة المقدسة، ليصدق فينا ذكر ربنا عز وجل أن هذه الأرض يرثها عباده الصالحين، ولن يكون ذلك بالأماني والأحلام، ولكن بالعمل الجاد الدؤوب، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.