خطبة الجمعة تتجدد فيها ركائز الدعوة إعلاماً على ملأ المصلين والموعظة إعلام فردي وجماعي للمهتدين
الرسول اختار أفضل الوسائل الدعوية ليُعْلم من خلالها أكبر عدد من الناس في أقل مساحة زمنية ممكنة
الشعر ونظم القوافي والخطابة كانت وسائل دعوية مناسبة للنيل من الخصم وإرباكه
بعض المسلمين حرّم وسائل الإعلام مطلقاً وأصبح عدم استعمال التلفاز سبباً للمدح!
يحتل الإعلام في الإسلام مكانة رفيعة عالية؛ إذ عليه تقوم دعائم البلاغ المبين، وبه تقطع الدعوة الآفاق، وتجوب البلاد والقارات، وهو من الدعائم التي لا تقوم أي دعوة نبوية كانت أو إصلاحية بغير توظيف المتاح منه.
تنوعت في الإسلام وسائل الإعلام؛ فبعضها ثابت لا يختلف القيام به باختلاف الزمان أو المكان، وبعضها يخضع لمحددات الزمن، واهتمامات أفراده، ومما يلفت النظر ونحن نسعى لالتماس الوسائل الدعوية التي جاء بها الإسلام على سبيل التشريع، فإننا نجد الوحي والأذان يترادفان لغة مع الإعلام(1)، وألفاظ الأذان تنبيه مصحوب برسالة تتكرر خمس مرات علانية للملأ إعلاماً بدخول الصلاة، وخمساً ثانية لمن لبى النداء داخل المسجد، وقد استحبّه الفقهاء لكل مولود يستهل على الأرض صارخاً؛ اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم (2)، فلا ينبغي أن تترك لحظة لقاء المولود الأول بالأرض دون إعلام حق.
وقد شرع الإسلام الجمعة وخطبتها لتتجدد فيها ركائز الدعوة إعلاماً على ملأ المصلين، وكان التكليف الشرعي بالموعظة التي هي إعلام فردي وجماعي سبيلاً للمهتدين، قال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (النحل: 125)، وهناك العديد من الوسائل الأخرى.
وحين نتأمل كيف تعاطت دولة النبوة مع الوسائل الدعوية المتاحة للدعوة، نجد أنها وظَّفت في بواكير نشأتها الأولى كل الوسائل الإعلامية الدعوية الممكنة، فكان البلاغ الفردي، وغشيان الأسواق، ومقابلة الوافدين، وقرض الشعر، والخطابة، والإبلاغ بصوت يملأ الأفق أحياناً سبيلاً سلكته الدعوة وهي تضع الأساس الراسخ لآخر الرسالات السماوية.
نجد كمثال لهذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين كُلّف بالبلاغ العام والإعلان بالدعوة، والانتقال بها من مرحلة التخفّي إلى مرحلة الإعلام العام للجميع، انتخب أفضل الوسائل الدعوية آنذاك ليُعْلم من خلالها أكبر عدد من الناس في أقل مساحة زمنية ممكنة، ويصل بصوته لمسامعهم، فصعد على الصفا وصرخ في أهل مكة ممن اجتمع له بكلمة الله تعالى للعالمين(3)، فقد غدا بعد التكليف بالإنذار غشيان المجالس والبيوت جهداً لا يتسع له الزمن، ولا بد من تجاوزه إلى ما هو أعمّ.
وانظر إلى هذا النموذج الإعلامي الذي انبلج في أشد اللحظات وأحلك الظروف، والدماء تنزف من الشهداء والجرحى في يوم «أُحد»، والرسول قد نهى أصحابه عن الرد على وقاحات المنتصرين، الذين لا قضية لهم سوى الصدّ عن سبيل الله تعالى؛ فقد برز أبو سفيان في يوم «أُحد» يقول: اعلُ هبل، اعلُ هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تجيبونه؟»، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: «قولوا الله أعلى وأجلُّ»، قال: إنَّ لنا العزى ولا عزَّى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا تجيبونه»، قالوا: يا رسول الله، ما نقول؟ قال: «قولوا الله مولانا ولا مولى لكم»(4)، فخسارة القضية هي الخسارة الحقيقية، ومهما كان الثمن المدفوع والدماء النازفة، فلا بد من أن تظل القضية دائماً مرفوعة.
وربما استعملت الدعوة الشعر ونظم القوافي كوسيلة مناسبة في ذاك الوقت للنيل من الخصم وإرباكه، والفتّ في نفسه، وإدخال الضيق عليه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوافي ابن رواحة رضي الله عنه: «لهي أسرع فيهم من نضح النبل)(5).
أزمة كل جديد
حين تقدمت الوسائل الإعلامية، وارتادت الآفاق، وحطمت جغرافيا الحدود، وأضحت تصنع واقعاً جديداً، وتنوعت الوسائل التي من خلالها تصل الفكرة، أو يتم التأسيس لمفاهيم جديدة؛ انقسم المسلمون على عادتهم في أزمنة الهوان شيعاً، بعضهم قاطعها درءاً للمفاسد؛ ظناً منه أنه يغلق باب الشر، وبعضهم حرَّمها بالكلّية، وأصبح مما يذكره المادحون في مآثر فقيد: إنه لم يستعمل التلفاز أو المذياع طول حياته!
لقد انعكس ترهل حَمَلة الإسلام، وتحول الأمة من طور الريادة إلى حالة الغثاء على موقفهم من الإعلام، وحين وجدت أنه لا سبيل أمامها، وغدت الوسائل الحديثة تفرض نفسها، حدثت أزمة لا تقل عن أزمة المقاطعة، فتقدم للإعلام الإسلامي غير المتخصصين، وفي ظل هذا يقول د. عمر عبيد: “بعض وسائل وأساليب الإعلام الإسلامي المعاصر تؤثر سلباً على مسار الدعوة الإسلامية ومواقف الناس منها، وذلك عندما يكون الطرح سيئاً، أو جاهلاً، أو غبياً، أو ساذجاً، فيُسيء إلى الإسلام وعظمته، ويزهّد الناس فيه، ويُخوفهم منه..”(6).
حين نتأمل الصفات التي يجب أن يتصف بها الرُّسل نجد أنها أربع صفات يجب أن تلازمهم ولا تنفكّ عنهم أبداً هي: “الصدق والأمانة والتبليغ والفطانة”(7)، فهذه الصفات الأربع هي ركيزة أي إعلام هادف، يحمل رسالة، أو يعيش أصحابه لقضية، يريدون من خلالها صناعة الخير وقيادة الجماهير، فإذا تخلفت واحدة من الأربعة ضاع الجهد أو طال الأمد، وربما صار تحقيق الأهداف محالاً.
إذا يممت وجهك يمنة أو يسرة فاحصاً في مادة وأهداف الإعلام الحالي للمسلمين، وقلّبت النظر عاد لك حسيراً، فالخطاب الإعلامي -الدعوي خاصة- غدا خطاباً مستهلَكاً لا يقدم جديداً، ولا يحاول نفض الغبار الذي تراكم وزكم الأنوف، فضلاً عن كونه يعيش كما عاش الذين كان همهم التحشية على شروح المتون.
إن الجماهير اليوم تتلقف الإعلام كالطفل الرضيع الذي تتشكل عظامه، وهذا ما وعته الدول التي أصبحت تجد في صناعة الإعلام كلفة أقل في انتهاب من شاءت من الأمم، وتصدير ما شاءت من الأفكار والثقافات، والتمكين لما تريد من القضايا، وتحويل الزيف من خلال الإعلام إلى يقين لا يقبل الشك.
في ظل هذا غدا محالاً إمكانية انتشال الأمة من القاع الذي تردت فيه من خلال موضوعات يتولى صياغتَها وإعدادَها متخصصون فقط في بعض علوم الشريعة، يقدمونها في قوالب جافة، وأقاصيص عفَّى عليها الزمن، وقياسات تجاوزتها علوم العصر، ثم غدا أكثرهم يتركون الجماهير نهباً لمن يفرغ فيهم بضاعة الزيف والضلال، فضلاً عن الخوض في الزائف من القضايا وتناول الجاف من الموضوعات، بحجة أنّه يسعنا أن نتكلم فيما تكلم فيه السلف، ونتناول من القضايا ما تناولوه، غاضين الطرف عن أن لكل زمن قضاياه التي تخصّه.
الدور المنشود
إن رسالة الإعلام كي تؤدي مهمتها الدعوية، لا بد لها من التعاطي مع كل مخرجات الإعلام العصرية سواء كانت هذه المخرجات أخباراً أو أفكاراً، أو أعمالًا فنية، وفق رؤية واضحة يضعها المتخصصون، ولن تتحول الأمة من حالة الاستهلاك الإعلامي إلى حالة العطاء والفاعلية إلا إذا حدَّد المتخصصون أهدافاً إنسانية سامية، يدورن خلفها، ثم تلقف القائمون على رسالتها الدعوية، المنظمون لسير قضاياها، المتخصصون في كل مجال لوضع رؤية للنجاح، فليس سمو الغاية وحده مبرراً أو كافياً في الوصول للأهداف، وهو الوهم الكامن في نفس من يأنف تحديث الخطاب، وتجديده وفق ضوابط الشريعة ليوافق حركة العصر الموّارة.
يتطلب تحديث الخطاب الإعلامي المعني بأمر الدعوة إسهاماً فاعلاً بجانب علماء الدين وعلماء النفس والاجتماع في اختيار الموضوعات والأفكار، واتخاذ الوسائل لإنضاجها، ووضع مقومات نجاحها، واختيار الأنسب لمن يقدمها؛ بدءاً من هندامه وانفعالاته، وصولاً إلى سكناته ووقفاته، هكذا تصنع الدول التي تريد اقتياد الجماهير أو تحويل مسارات تفكيرهم واهتماماتهم.
ثم لا بد من تفعيل ما نملك بحكم الشريعة من وسائل إعلامية مهمة سبقت الإشارة لبعضها، ولا يجوز لنا أن نتركها تتحول لرتابة تجعل المستمع لها يفرّ منها ويأنف السماع لأصحابها، ونتحول بها من حالة الجمود والضمور إلى الفاعلية والحركة، هذا إن أردنا أن نضع أساساً لمستقبل أجيال قادمة مهمتها ربما تكون ثقيلة.
الهوامش
(1) تهذيب اللغة (5/ 193)، ولسان العرب (5/ 200).
(2) أخرجه أبو داود (5105)، وحسنه الألباني.
(3) متفق عليه.
(4) البخاري، برقم (2874).
(5) الترمذي، وصححه الألباني.
(6) .http://library.islamweb.net/newlibrary/display
(7) سعيد حوى، الأساس في السنة وفقهها – العقائد الإسلامية: 2/ 810.