لقد برع العرب المسلمون في العديد من العلوم؛ كالطب والهندسة والفلك والحساب وغيرها من العلوم المهمة في حياة الفرد والمجتمع، ومن أهم العلوم التي ازدهرت في العصر الذهبي الإسلامي علم الفراسة، حيث برع المسلمون الأوائل فيه، ورُويت فيه الروايات والقصص العجيبة، وسُطرت فيه الكتب، التي تدل بما لا يدع مجالاً للشك على تفوق العرب المسلمين في هذا العلم.
وقد ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ (الحجر: 75)، ذكر عدد من أهل العلم ومنهم مجاهد رحمه الله أن هذه الآية عن أهل الفراسة، أما في السُّنة النبوية المطهرة ففيها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: “إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم” (رواه الطبراني في الأوسط، برقم 3086).
وقد تميز أهل الكويت الكرام بالفراسة ومعرفة الناس والحكم عليهم، وهناك العديد من الأمثلة التي وصلت إلينا وتواترت أحداثها تدل على ذلك، وتروي قصص الفراسة لأهل الكويت بصفة عامة ولتجار الكويت بصفة خاصة، ومن هذه القصص تلك القصص الواقعية عن التاجر والنوخذة عبدالوهاب عبدالعزيز العثمان، التي وردت في كتابي “النوخذة عبدالوهاب عبدالعزيز العثمان: ريادة عائلية وتميز إنسان” (ص 140 – 145).
وفيها أن النوخذة عبدالوهاب العثمان رحمه الله ذهب بصحبة عبدالرازق الياقوت إلى منطقة المعامر في ساحل إيران المقارب لشط العرب لكي يتفقد سفينته وهي تحمل التمور من هناك إلى الهند وأفريقيا، وقد كان نوخذة السفينة هو عبدالله إسماعيل إبراهيم رحمه الله، فسأله النوخذة عبدالوهاب عن تحميل التمر ومحاسبته تجار المنطقة من صفقات التمور.
وقد كان لتجار التمور هناك وكلاء يمثل كل منهم وسيطاً لبيع التمر اسمه “مختار”، فقال النوخذة عبدالله إسماعيل إبراهيم لصاحب السفينة النوخذة عبدالوهاب العثمان: “إنني أتعامل مع المختار حنظل، والمختار سليمان كوكيلين لبيع التمر لصالح التجار مقابل أجرة محددة سلفاً من أولئك التجار، وقد قدر الله أن يكون المختار حنظل –أحد الوكيلين- موجوداً يومها على ظهر السفينة أو قربها خلال عملية التحميل، فلمحه المرحوم عبدالوهاب العثمان مجرد لمحة من بعيد، وقد كانت اللمحة العابرة هي أول مرة يلتقي فيها النوخذة عبدالوهاب بذلك المختار، وسبحان الله العظيم كانت هذه النظرة العابرة كافية بالنسبة للمرحوم عبدالوهاب لكي يتفرس في وجهه فيحذر منه مباشرة ويقول: “اجتنب المختار حنظل فإنه كذاب”! هكذا وبكل ثقة وكأنه قد عرفه عن قرب، فلما سأله النوخذة عبدالله إسماعيل عن السبب رد –بكل ثقة- قائلاً: “عيونه تقول إنه حرامي.. ولا تتردد في تصديق كلامي..”، ثم قال: “لا.. عبدالله أنت نوخذة ولازم تعرف قبلي”.
ثم يستأنف النوخذة عبدالله إسماعيل: “ذهبت لشأني فأخذت في تحميل التمر ومواصلة الاستعداد للرحيل، وذهبت ظهر الغد للمختار سليمان، الذي دعاني لتناول وجبة الغداء عنده، ودار الحديث بين الحاضرين عن أحوال سوق التمر، فاشتكى أحد “الفلاليح” (الفلاحين) للمختار سليمان: “الناس يشتكون من الشيخ حنظل”، فرد أحد الجالسين بطرف المجلس –دون أن يتنبه لوجودي ولعلاقتي التجارية المباشرة معه- قائلاً: “يابه.. الشيخ حنظل إذا ما حاسب الحق بيده، لأنه أساسه حرامي”.
فقلت في نفسي: سبحان الله العظيم، الذي ألهم النوخذة عبدالوهاب العثمان فراسة عظيمة عرف بها الحرامي من نظرة عينيه، فلما عدنا إلى الكويت أبلغته بصدق فراسته فرد على الفور وكله مزيد من الثقة: “يا عبدالله.. هل عندك شك في ذلك؟”.
يستكمل في المقال القادم بإذن الله.
WWW.ajkharafi.com